وقول عز وجل: « إن هذا إلا خلق الأولين » أي اختلافهم وكذبهم، ومن قرأ: « خلق الأولين » فمعناه عادتهم، والعرب تقول: حدثنا فلان
بأحاديث الخلق أي بالخرافات والأحاديث المفتعلة. وقال ابن الأعرابي: الخلق الدين
والخلق الطبع والخلق المروءة. قال النحاس: « خلق الأولين » عند الفراء
يعني عادة الأولين. وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: « خلق الأولين » مذهبهم وما جرى عليه أمرهم؛ قال أبو
جعفر: والقولان متقاربان، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ) أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه
الأمر في طاعة الله عز وجل، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا، ولا
أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الحلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر: حكي لنا عن
محمد بن يزيد أن معنى « خلق
الأولين » تكذيبهم
وتخرصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى؛ لأن فيها مدح آبائهم، وأكثر ما جاء
القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم، وقولهم: « إنا وجدنا آباءنا على أمة » [
الزخرف: 23 ] . وعن أبي
قلابة: أنه قرأ: خلق « بضم الخاء
وإسكان اللام تخفيف « خلق » . ورواها ابن جبير عن أصحاب نافع عن نافع. وقد قيل: إن
معنى « خلق الأولين » دين الأولين. ومنه قوله تعالى: » فليغيرن خلق الله « [ النساء: 119 ] أي دين
الله. و « خلق الأولين » عادة الأولين: حياة ثم موت ولا بعث. وقيل: ما هذا الذي
أنكرت علينا من البنيان والبطش إلا عادة من قبلنا فنحن نقتدي بهم. » وما نحن بمعذبين « على ما نفعل. وقيل: المعنى خلق أجسام
الأولين؛ أي ما خلقنا إلا كخلق الأولين الذين خلقوا قبلنا وماتوا، ولم ينزل بهم
شيء مما تحذرنا به من العذاب. » فكذبوه
فأهلكناهم « أي بريح
صرصر عاتية على ما يأتي في » الحاقة « . » إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين « قال بعضهم: أسلم معه ثلاثمائة ألف ومئون وهلك باقيهم. » وإن ربك لهو العزيز الرحيم « .»
الآيات: 141 - 159 ( كذبت ثمود المرسلين، إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين،
فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين،
أتتركون في ما هاهنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم، وتنحتون من
الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعون، ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون
في الأرض ولا يصلحون، قالوا إنما أنت من المسحرين، ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية
إن كنت من الصادقين، قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، ولا تمسوها بسوء
فيأخذكم عذاب يوم عظيم، فعقروها فأصبحوا نادمين، فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما
كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم )
قوله تعالى: « كذبت ثمود المرسلين » ذكر قصة صالح وقومه وهم ثمود؛ وكانوا
يسكنون الحجر كما تقدم في « الحجر » وهي ذوات نخل وزروع ومياه. « أتتركون في ما ههنا آمنين » يعني في الدنيا آمنين من الموت والعذاب.
قال ابن عباس: كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم. ودل على هذا قوله: « واستعمركم فيها » [ هود: 61 ] فقرعهم
صالح ووبخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت « في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم
» .
الزمخشري: فإن قلت لم قال: « ونخل » بعد قوله: و « جنات » والجنات تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج
حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا
الإبل قال زهير:
كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي
جنة سحقا
يعني النخل؛ والنخلة السحوق البعيدة
الطول. قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر
الشجر تنبيها على انفراده عنها بفضله عنها. والقاني: أن يريد بالجنات غيرها من
الشجر؛ لأن اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل. والطلعة هي التي تطلع من النخلة
كنصل السيف؛ في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه
وشماريخه. و « هضيم » قال ابن عباس: لطيف ما دام في كفراه.
والهضيم اللطيف الدقيق؛ ومنه قول امرئ القيس:
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
الجوهري: ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج من
كفراه؛ لدخول بعضه في بعض. والهضيم من النساء اللطيفة الكشحين. ونحوه حكى الهروي؛
قال: هو المنضم في وعائه قبل أن يظهر؛ ومنه رجل هضيم الجنبين أي منضمهما؛ هذا قول
أهل اللغة. وحكى الماوردي وغيره في ذلك اثني عشر قولا: أحدها: أنه الرطب اللين؛
قال عكرمة. الثاني: هو المذنب من الرطب؛ قاله سعيد بن جبير. قال النحاس: وروى أبو
إسحاق عن يزيد - هو ابن أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي - « ونخل طلعها هضيم » قال: منه ما قد أرطب ومنه مذنب. الثالث:
أنه الذي ليس فيه نوى؛ قاله الحسن. الرابع: أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتت؛ قال
مجاهد. وقال أبو العالية: يتهشم في الفم. الخامس: هو الذي قد ضمر بركوب بعضه بعضا؛
قاله الضحاك ومقاتل. السادس: أنه المتلاصق بعضه ببعض؛ قال أبو صخر. السابع: أنه
الطلع حين يتفرق ويخضر؛ قاله الضحاك أيضا. الثامن: أنه اليانع النضيج؛ قاله ابن
عباس.
التاسع: أنه المكتنز قبل أن ينشق عنه
القشر؛ حكاه ابن شجرة؛ قال:
كأن حمولة تجلى عليه هضيم ما يحس له شقوق
العاشر: أنه الرخو؛ قال الحسن. الحادي
عشر: أنه الرخص اللطيف أول ما يخرج وهو الطلع النضيد؛ قاله الهروي. الثاني عشر:
أنه البرني؛ قاله ابن الأعرابي؛ فعيل بمعنى فاعل أي هنيء مريء من انهضام الطعام.
والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور؛ ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات.
قوله تعالى: « وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين » النحت النجر والبري؛ نحته ينحته « بالكسر » نحتا إذا براه والنحاتة البراية.
والمنحت ما ينحت به. وفي « والصافات
» قال: « أتعبدون ما تنحتون » [ الصافات: 95 ] . وكانوا
ينحتونها من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر. وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو ونافع: « فرهين » بغير ألف. الباقون: « فارهين » بألف وهما بمعنى واحد في قول أبي عبيدة
وغيره؛ مثل: « عظاما نخرة
» [ النازعات: 11 ] و « ناخرة » . وحكاه
قطرب. وحكى فره يفره فهو فاره وفره يفره فهو فره وفاره إذا كان نشيطا. وهو نصب على
الحال. وفرق بينهما قوم فقالوا: « فارهين » حاذقين بنحتها؛ قاله أبو عبيدة ؛ وروي
عن ابن عباس وأبي صالح وغيرهما. وقال عبدالله بن شداد: « فارهين » متجبرين. وروي عن ابن عباس أيضا أن
معنى: « فرهين » بغير ألف أشرين بطرين؛ وقاله مجاهد.
وروى عنه شرهين. الضحاك: كيسين. قتادة: معجبين؛ قاله الكلبي؛ وعنه: ناعمين. وعنه
أيضا آمنين؛ وهو قول الحسن. وقيل: متخيرين؛ قاله الكلبي والسدي. ومنه قال الشاعر:
إلى فره يماجد كل أمر قصدت له لأختبر
الطباعا
وقيل: متعجبين؛ قال خصيف. وقال ابن زيد:
أقوياء. وقيل: فرهين فرحين؛ قاله الأخفش. والعرب تعاقب بين الهاء والحاء؛ تقول:
مدهته ومدحته؛ فالفره الأشر الفرح ثم الفرح بمعنى المرح مذموم؛ قال الله تعالى: « ولا تمش في الأرض مرحا » [ الإسراء: 37 ] وقال: « إن الله لا يحب الفرحين » [ القصص: 76 ] . « فاتقوا الله وأطيعون، ولا تطيعوا أمر
المسرفين » قيل:
المراد الذين عقروا الناقة. وقيل: التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
قال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك؛ فقال لهم ذلك،
فقالوا: ما كنا لنفعل. فقال لهم صالح: إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون
هلاككم على يديه؛ فقالوا: لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه. فولد لتسعة منهم
في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له
قبل ذلك. وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا؛ وكان إذا مر بالتسعة فرأوه
قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا. وغضب التسعة على صالح؛ لأنه كان سبب
قتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. قالوا: نخرج إلى سفر فترى
الناس سفرنا فنكون في غار، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه،
ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون؛ فيصدقوننا ويعلمون أنا قد خرجنا إلى
سفر. وكان صالح لا ينام معهم في القرية وكان يأوي إلى مسجده، فإذا أصبح أتاهم
فوعظهم، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم، فرأى ذلك ناس
ممن كان قد أطلع على ذلك، فصاحوا في القرية: يا عباد الله! أما رضي صالح أن أمر
بقتل أولادهم حتى قتلهم؛ فأجمع أهل القرية على قتل الناقة. وقال ابن إسحاق: إنما
اجتمع التسعة على سب صالح بعد عقرهم الناقة وإنذارهم بالعذاب على ما يأتي بيانه في
سورة « النمل » إن شاء الله تعالى. « قالوا إنما أنت من المسحرين » هو من السحر في قول مجاهد وقتادة على ما
قال المهدوي. أي أصبت بالسحر فبطل عقلك ؛ لأنك بشر مثلنا فلم تدع الرسالة دوننا.
وقيل: من المعللين بالطعام والشراب؛ قاله ابن عباس والكلبي وقتادة ومجاهد أيضا
فيما ذكر الثعلبي. وهو على هذا القول من السحر وهو الرئة أي بشر لك سحر أي رئة
تأكل وتشرب مثلنا كما قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا
الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس:
ونسحر بالطعام وبالشراب
« فأت بآية إن كنت من الصادقين » في قولك. « قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم
معلوم » قال ابن
عباس: قالوا إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع
ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبنا. فدعا الله وفعل الله ذلك
فـ « قال هذه
ناقة لها شرب » أي حظ من
الماء؛ أي لكم شرب يوم ولها شرب يوم؛ فكانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول
النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم
وأرضهم، ليس لهم في يوم ورودها أن يشربوا من شربها شيئا، ولا لها أن تشرب في يومهم
من مائهم شيئا. قال الفراء: الشرب الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر فيقال
فيه شرب شربا وشربا وشربا وأكثرها المضمومة؛ لأن المكسورة والمفتوحة يشتركان مع
شيء آخر فيكون الشرب الحظ من الماء، ويكون الشرب جمع شارب كما قال:
فقلت للشَّرب في دُرْنا وقد ثملوا
إلا أن أبا عمرو بن العلاء والكسائي
يختاران الشَّرب بالفتح في الصدر، ويحتجان برواية بعض العلماء أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ( إنها
أيام أكل وشَرب ) . « ولا تمسوها بسوء » لا يجوز إظهار التضعيف ها هنا؛ لأنهما
حرفان متحركان من جنس واحد. « فيأخذكم » جواب النهي، ولا يجوز حذف الفاء منه،
والجزم كما جاء في الأمر إلا شيئا روي عن الكسائي أنه يجيزه. « فعقروها فأصبحوا نادمين » أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب. وذلك
أنه أنظرهم ثلاثا فظهرت عليهم العلامة في كل يوم، وندموا ولم ينفعهم الندم عند
معاينة العذاب. وقيل: لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا، بل طلبوا صالحا عليه
السلام ليقتلوه لما أيقنوا بالعذاب. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد إذ لم
يقتلوه معها. وهو بعيد. « إن في ذلك
لآية » إلى آخره
تقدم. ويقال: إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل:
كانوا أربعة آلاف. وقال كعب: كان قوم صالح اثني عشر ألف قبيل كل قبيل نحو اثني عشر
ألفا من سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات.
____________________________________
TAFSIR IBN KATHIR
وقولهم: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) : قرأ بعضهم: "إن هذا إلا خَلْق" بفتح الخاء وتسكين
< 6-154 >اللام.
قال ابن مسعود، والعوفي عن عبد الله بن عباس، وعلقمة، ومجاهد: يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين. كما قال المشركون من قريش: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا [الفرقان:5]، وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الفرقان: 4 ، 5] ، وقال وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] [النحل : 24] .
وقرأ آخرون: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) -بضم الخاء واللام -يعنون: دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأوائل من الآباء والأجداد. ونحن تابعون لهم، سالكون وراءهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد؛ ولهذا قالوا: ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) يقول: دين الأولين. وقاله عكرمة، وعطاء الخراساني، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير .
قال الله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ) أي: فاستمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، أي: ريحًا شديدة الهبوب ذات برد شديد جدًا، فكان إهلاكهم من جنسهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ [ذَاتِ الْعِمَادِ] [الفجر:6 ، 7] وهم عاد الأولى، كما قال: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى [النجم:50]، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح. ( ذَاتِ الْعِمَادِ ) أي: الذين كانوا يسكنون العمد. ومن زعم أن "إرم" مدينة، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب، وليس لذلك أصل أصيل. ولهذا قال: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:8]، أي: لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال: التي لم يبن مثلها في البلاد، وقال: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15] .
وقد قَدَّمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا بمقدار أنف الثور، عتت على الخزنة، فأذن الله لها في ذلك، وسلكت وحصبت بلادهم، فحصبت كل شيء لهم، كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ الآية [الأحقاف:25] ، وقال تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:6 ، 7] ، أي: كاملة فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة : 7] ، أي: بقوا أبدانًا بلا رؤوس؛
< 6-155 >وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه، وتكسر رأسه، وتلقيه، كأنهم أعجاز نخل منقعر. وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ [نوح:4]؛ ولهذا قال: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
وهذا إخبار من الله، عز وجل، عن عبده ورسوله صالح، عليه السلام: أنه بعثه إلى قوم ثمود، وكانوا عربًا يسكنون مدينة الحجْر، التي بين وادي القُرَى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة مشهورة. وقد قدمنا في "سورة الأعراف" الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غَزْوَ الشام، فوصل إلى تَبُوك، ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك. وقد كانوا بعد عاد وقبل الخليل، عليه السلام. فدعاهم نبيهم صالح إلى الله، عز وجل، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه. فأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله، عز وجل، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال:
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)
يقول لهم واعظًا لهم ومحذرًا إياهم نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارّة، وجعلهم في أمن من المحذورات. وأنبت لهم من الجنات ، وأنبع لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزروع والثمرات؛ ولهذا قال: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) . قال العوفي، عن ابن عباس: أينع وبَلَغ، فهو هضيم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) يقول: مُعشبة.
[و] قال إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن أبي عمرو -وقد أدرك الصحابة -عن ابن عباس، في قوله: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال: إذا رطُب واسترخى. رواه ابن أبي حاتم، قال: ورُوي عن أبي صالح نحو هذا .
< 6-156 >
وقال أبو إسحاق، عن أبي العلاء: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال: هو المذنب من الرطب.
وقال مجاهد: هو الذي إذا كُبس تهشم وتفتت وتناثر.
وقال ابن جريج: سمعت عبد الكريم أبا أمية، سمعت مجاهدا يقول: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال: حين يطلعُ تقبض عليه فتهضَمه، فهو من الرطب الهضيم، ومن اليابس الهشيم، تقبض عليه فتهشمه.
وقال عكرمة: وقتادة، الهضيم: الرطب اللين.
وقال الضحاك: إذا كثر حمل الثمرة ، وركب بعضه بعضًا، فهو هضيم.
وقال مرة: هو الطَّلْعُ حين يتفرق ويخضر.
وقال الحسن البصري: هو الذي لا نوى له.
وقال أبو صخر: ما رأيت الطلعَ حين يُشق عنه الكمّ، فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض، فهو الهضيم.
وقوله: ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) قال ابن عباس، وغير واحد: يعني: حاذقين. وفي رواية عنه: شرهين أشرين . وهو اختيار مجاهد وجماعة. ولا منافاة بينهما؛ فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا، من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم؛ ولهذا قال: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) أي: أقبلوا على عَمَل ما يعود نفُعه عليكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتوحدوه وتعبدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا.
( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) يعني: رؤساءهم وكبراءهم، الدعاة لهم إلى الشرك والكفر، ومخالفة الحق.
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح، عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة ربهم ( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) . قال مجاهد، وقتادة: يعنون من المسحورين.
وروى أبو صالح، عن ابن عباس: ( مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) : يعني من المخلوقين، واستشهد بعضهم على هذا القول بما قال الشاعر :
فــإن تسـألينا: فيـم نحـن ? فإننـا
| |
عصـافير مـن هـذا الأنـام المسحر
|
< 6-157 >
يعني الذين لهم سُحور، والسَّحر: هو الرئة.
والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة: أنهم يقولون: إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك.
ثم قالوا: ( مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) يعني: فكيف أوحي إليك دوننا؟ كما قالوا في الآية الأخرى: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [القمر: 25، 26] .
ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها، ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم فطلبوا منه -وقد اجتمع ملؤهم -أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة -وأشاروا إلى صخرة عندهم -ناقة عُشَراء من صفتها كذا وكذا. فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق، لئن أجابهم إلى ما سألوا لَيُؤمنَنَ به، [وليصدقنه] ، وليتبعنه، فأنعموا بذلك. فقام نبي الله صالح، عليه السلام، فصلى، ثم دعا الله، عز وجل، أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عُشَراء، على الصفة التي وصفوها. فآمن بعضهم وكفر أكثرهم ، ( قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) يعني: ترد ماءكم يوما، ويوما تردونه أنتم، ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حينًا من الدهر ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى. وينتفعون بلبنها، يحتلبون منها ما يكفيهم شربًا وريًا، فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم، تمالؤوا على قتلها وعقرها.
( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ) وهو أن أرضهم زُلزلت زلزالا شديدًا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب عن محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )