Monday 24 June 2013

وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏

Monday 24 June 2013 0
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له
أما بعد :
فإن من أعظم الأخطار المهلكة أن يؤتى المرء من مأمنه ومن حيث لا يحتسب , فأذى القريب أبلغ تأثيراً من أذى البعيد ومن الحبيب أشد من البغيض ومن المأمون أضر من المخوف  . وكل أذى يمكن تداركه إلا أذى يوم القيامة ، فإنه الطامة والداهية التى ليس بعدها داهية . وأشد الناس حسرة من له أعمال يرجو ثوابها وبرها وجزائها، فيجدها آثاما وأغلالا كبلته فياحسرة على العباد !!  يوم أن يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون !!!  فيا أخي الحبيب إحذر ذلك وأصلح أعمالك ونواياك، أصلحنا الله وإياك .
وإليك جملة من الأعمال التي نعملها أنا وأنت نرجو ثوابها وخيرها , وربما تكون ذات آفة تفسدها أو تقلبها سيئات وبها يبدو لنا من الله مالم نكن نحتسب ، فأبينها حتى نحذرها ونصلحها. منها :
1-الاستهانة بالذنب: ربما يحتقر الإنسان ذنباً ويستهين به , فيكون هو سبب هلاكه كما قال تعالى :
( وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )  مثل ما يفعله كثير من الناس من مشاهدة الأفلام الخليعة، ومشاهدة الصور العارية ، والمواقع الإباحية , والخوض في أعراض الناس ، ( الغيبة والنميمة )
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم" البخاري ومسلم
قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-:" إنكم تعملون أعمالا هي في أعينكم أدق من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات" البخاري
2- من زين له سوء عمله فرآه حسنا .
فقد يزين لكثير من الناس أعمال على أنها قرب إلى الله وهى من شر الأعمال مثل : الذهاب إلى أصحاب القبور للتقرب عندهم لله ، أو الجلوس في مجالس ذكر لعمل ختمة فيذكرون الله بذكر معين لم يشرعه الله عز وجل ، أو إحياء أيام غير مشروعة كالاحتفال بالمولد النبوي ،أو يوم الهجرة ،أوشم النسيم , ....... وغيرها كثير .  قال تعالى :( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون)
قال ابن كثير: يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالا سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء )أي بقدره كان ذلك ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) أي لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي لما له في ذلك من الحجة البالغة والعلم التام ولهذا قال تعالى ( إن الله عليم بما يصنعون) . قال تعالى : (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) . قال الفضيل بن عياض في هذه الآية (( وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون )): عملوا أعمالا وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات.
3-المراءاة بالعمل :
قال سفيان : ويل لأهل الرياء من هذه الآية (( وبدا لهم من الله لم يكونوا يحتسبون ......... فياخسارة من عمل طاعات شريفة جليلة ولم يخلص فيها لله عز وجل ......
إن شفيا الأصبحي حدث : أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال من هذا ؟ فقالوا أبو هريرة فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته فقال أبو هريرة:
 أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلا ثم أفاق فقال لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق فمسح وجهه فقال لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق ومسح وجهه فقال أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خارا على وجهه فأسندته علي طويلا ثم أفاق فقال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت ؟ قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له فبماذا قتلت ؟ فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله تعالى له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذاك ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة وقال الوليد أبو عثمان فأخبرني عقبة بن مسلم أن شفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافا لمعاوية فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هالك وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال صدق الله ورسوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون { .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .....
الخطبة الثانية :
4-مظالم العباد :
فمن الناس من يعمل أعمالا صالحة كثيرة ولكنه لا يتجنب ظلم العباد ، فيؤتى به يوم القيامة فيقتص منه فتذهب المظالم بجميع الحسنات ، بل ويطرح عليه من سيئات القوم فيطرح في النار كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- : "أتدرون ما المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ، وقال أيضاً: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" مسلم  ، وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-:"
من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه" .رواه البخاري
5-المطالبة بشكر النعم:
مما يدخل في ذلك أيضاً ولا يحتسب الإنسان له , أن يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم فتقوم بعض النعم فتستوعب جميع أعماله فيطلب بشكرها فيعذب .
عن عائشة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من نوقش الحساب عذب ) . قالت : قلت أليس يقول الله تعالى { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } . قال: ذلك العرض .قال يحيى بن معاذ : (( إذا بسط فضله لم يبق لأحد سيئة , وإذا جاء عدله لم يبق لأحد حسنة )) نسأل الله من فضله
6-السيئات الماحية ::
وقد يعمل الإنسان أعمالا صالحة كثيرة ومع هذا الصلاح يفعل محرماً مستترا به عن أعين الناس غير مبال بنظر الله إليه . فيمحو ذلك حسناته وتحبط أعماله ولا يبدو له ذلك إلا يوم القيامة
قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- :(لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا . فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا ) . قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لانعلم . قال ( أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم . ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني
فاحذر ياأخي الحبيب أن تكون من هذه الأصناف وأنت لاتشعر. هذا ونسأل الله العفو و العافية في الدين والدينا. وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين .

Wednesday 12 June 2013

القضاء والقدر واعتقاد الناس

Wednesday 12 June 2013 0



أشهر المذاهب في باب القضاء والقدر ثلاثة:
المذهب الأول: مذهب الجهمية الجبريّة.
وخلاصة قولهم أن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرةَ لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده هو خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازاً[1].
يقول البغدادي عن الجهم: "وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، كما يقال: زالت الشمس ودارت الرحى، من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به"[2].
فالإنسان عند الجهم يختلف عن الجمادات، لأن الله خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، كما خلق له إرادة للفعل، واختياراً منفرداً له، لكن هذه الإرادة كاللون والطول ونحوهما مما لا إرادة للإنسان فيه ولا قدرة[3].
المذهب الثاني: مذهب المعتزلة القدرية.
وخلاصة قولهم أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها.
فهم ينكرون الدرجة الثانية من درجات القدر[4]، والتي تشمل مرتبتي الإرادة والخلق، فينفونها عن الله تعالى، ويثبتونها للإنسان[5].
يقول عبد الجبار الهمذاني: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله جل وعزّ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال: إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه"[6].
ويقول القاسم بن إبراهيم الرسي راداً على من قال: إن الله هو الخالق لأفعال العباد: "ولو كان هو الفاعل لأعمالهم الخالق لها لم يخاطبهم ولم يعظهم، ولم يلمهم على ما كان منهم من تقصير، ولم يمدحهم على ما كان منهم من جميل وحسن"[7].
المذهب الثالث: مذهب السلف.
يلخّصه شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد.
وأنه سبحان ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو القادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادرٌ عليه.
وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم؛ قدّر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.
فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون"[8].
قال ابن أبي العزّ الحنفي: "ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبّة والرضا، فسوّى بينهما الجبريّة والقدريّة، ثم اختلفوا، فقالت الجبريّة: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله، ولا مرضيّة له، فليست مقدّرة ولا مقضّية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دلّ على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنّة والفطرة الصحيحة"[9].
يقول ابن أبي العزّ الحنفي في معرض ردّه على هؤلاء وهؤلاء: "وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اخلفوا فيه من الحقّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فكلّ دليل صحيح يقيمه الجبريّ فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يدلّ على أن العبد ليس بفاعلٍ في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختياريّة بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدلّ على أن العبد فاعل لفعله حقيقةً، وأنه مريدٌ له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدلّ على أنه غير مقدورٍ لله تعالى، وأنه واقعٌ بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفةٍ منهما من الحق إلى حقِّ الأخرى فإنما يدلُّ ذلك على ما دلَّ عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقةً، وأنه يستوجبون عليها المدح والذمّ.
وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلّة الحق لا تتعارض، والحقّ يصدّق بعضه بعضاً. ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدّلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويُستفاد من دليل كل فريقٍ بطلان قول الآخرين"[11].
1- وقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال: يا هؤلاء، إن ناقتي سُرقت فادعوا الله أن يردَّها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم تُرد أن تُسرق ناقته فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولم؟ قال: أخاف كما أراد أن لا تُسرق فسُرقت، أن يريد ردّها فلا تُرد[12].
2- وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال، ثم عذّبني، أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء[13].
3- ودخل القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ على الصاحب ابن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني ـ أحد أئمة السنة ـ، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ فوراً: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعصى؟! قال الأستاذ: أيُعصى ربنا قهراً؟! فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟! فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبُهت القاضي عبد الجبار[14].
4- وقال غيلان لميمون مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه: أشاء ربنا أن يُعصى؟! فقال له ميمون: أفعُصي كارهاً؟![15].
5- وقد وضع الإمام الشافعي مسلكاً قوياً في مناظرة القدريّة، فقال: "ناظروا القدرية بالعلم[16]، فإن أقرّوا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا"[17].
وكان السلف رضوان الله عليهم يناظرون القدرية بهذا المسلك كثيراً.
6- عن عمرو بن مهاجر قال: أقبل غيلان ـ وهو مولى لآل عثمان ـ وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز، فبلغه أنهما ينطقان في القدر، فدعاهما، فقال: أعِلمُ الله نافذٌ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ يا أمير المؤمنين، قال: ففيم الكلام؟! فخرجنا، فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أشرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟! فقال عمرو: فأومأتُ إليهما برأسي: قولا: نعم. فقالا: نعم. فأمر بإخراجهما[18].
7- وعن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان، ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يُكذب عليّ يا أمير المؤمنين ويُقال علي ما لا أقول، قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم، قال: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل: ما شئت. يا غيلان: إنك إن أقررت بالعلم خُصِمت، وإن جحدته كفرتَ، وإنك أن تقرّ به فتخصم خيرٌ لك من أن تجحد فتكفر[19].
8- بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً قد ظهر يقول بالقدر، وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره، فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشرّ؟ قال: بذلك أقول، فأحضِر من شئت يحاجني فيه، فإن غلبته بالحجة والبيان علمتُ أني على الحق، وإن غلبني بالحجة فاضرب عنقي. قال: فبعث هشام إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته، فقال له الأوزاعي: إن شئتَ سألتك عن واحدة، وإن شئتَ عن ثلاث، وإن شئتَ عن أربع؟ فقال: سل عما بدا لك، قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة. ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ قال: هذه أشدّ من الأولى، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه اثنتان. ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ قال: هذه أشدّ من الأولى والثانية، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه. فأمر به هشام فضربت عنقه. ثم قال للأوزاعي: يا أبا عمرو، فسّر لنا هذه المسائل، قال: نعم يا أمير المؤمنين. سألته: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى؟ نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه بأكلها. وسألته: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ أمر إبليس بالسجود لآدم، ثم حال بينه وبين السجود. وسألته: هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ حرّم الميتة والدم، ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه. قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ قال: كنت أقول: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً، أو قال: دون الله، فقد انفرد بالربوبية، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها، قال هشام: حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء[20].
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل شيء بقدر حتى وضعك يدَك على خدّك)[21].
وقال يحيى بن سعيد: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: "إن أفعال العباد مخلوقة"، قال أبو عبد الله: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة[22].
وقال الإمام أبو حنيفة: "وكان الله تعالى عالماً في الأزل بالأشياء قبل كونها، وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلاّ بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتابته في اللوح المحفوظ"[23].
وقال الإمام مالك لرجل: سألتني أمس عن القدر؟ قال: نعم، قال: "إن الله تعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْى لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، فلا بدّ أن يكون ما قال الله تعالى"[24].
وقال الإمام الشافعي: "إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين، فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خلقٌ من خلق الله تعالى... وإن القدر خيره وشره من الله عز وجل"[25].
وقال الإمام أحمد: "والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومرّه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيّئه، وأوله وآخره من الله قضاءً وقدراً، قدّره عليهم لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل، ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل منه عزّ ربنا وجلّ"[26].
وقال الإمام أحمد أيضا: "أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وأئمة السلف وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله، والنهي عما نهى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين"[27].
وقال أبو بكر الحميدي: "السنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه، وأن يعلم أن ما أصابهُ لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله قضاءٌ من الله عز وجل"[28].
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشرّ والنفع والضرّ والحلو والمرّ بقضاء الله تعالى وقدره، ولا مردّ لهما ولا محيص ولا محيد عنهما، ولا يصيب المرء إلاّ ما كتب له ربّه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرّوه بما لم يقضه الله عليه لم يقدروا"[29].
وقال البغوي: "الإيمان بالقدر فرضٌ لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال عز وجل: {قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء} [الرعد:16]، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فالإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب..."[30].
وقال ابن قدامة المقدسي: "من صفات الله تعالى أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلاّ بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلاّ عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خطّ في اللوح المحفوظ"[31].

[1] انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 302) وما بعدها.
[2] الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 211). وانظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/87).
[3] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/338)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 304).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (3/148-150).
[5] انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
[6] المغني في أبواب التوحيد والعدل، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
[7] كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن الله الواحد الحميد للرسي (1/118)، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 307).
[8] مجموع الفتاوى (8/449)، وانظر: (8/452،459) منه.
[9] شرح العقيدة الطحاوية (ص 324) ط الرسالة، وانظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/165).
[10] انظر مناقشة الأدلة تفصيلاً في شفاء العليل لابن القيم (2/127-255)، والقضاء والقدر للمحمود (ص346-367).
[11] شرح العقيدة الطحاوية (ص640-641) ط الرسالة. وانظر: شفاء العليل (1/150).
[12] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 250-251).
[13] المصدر السابق (ص 251).
[14] انظر التعليق على المصدر السابق (ص 251) وفتح الباري.
[15] انظر: تاريخ الطبري (8/125).
[16] أي: بصفة العلم التي اتصف الله تعالى بها.
[17] شرح الطحاوية (ص 354) ط الرسالة.
[18] الشريعة للآجري (ص 232).
[19] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/789).
[20] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/795).
[21] خلق أفعال العباد للبخاري (ص 34).
[22] المصدر السابق.
[23] الفقه الأكبر المنسوب إلى أبي حنيفة، وشرحه لملاّ علي قاري (ص 63-64).
[24] حلية الأولياء لأبي نعيم (6/326).
[25] مناقب الشافعي للبيهقي (1/415).
[26] طبقات الحنابلة (1/25).
[27] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 228).
[28] مسند الحميدي (2/546).
[29] عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 78-79).
[30] شرح السنة (1/142-144).
[31] لمعة الاعتقاد (ص 19-20).

 
والقلم وما يسطرون. Design by Pocket