وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر ، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة ، وإلى المعتزلة تفضيل الملائكة .
وأتباع الأشعري على قولين : منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولا . وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة . وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية .
وقالت الشيعة : إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة . ومن الناس من فصل تفصيلا آخر . ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض . وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة ، لقلة ثمرتها ، وأنها قريب مما لا يعني ، و من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
[ ص: 411 ] والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات ، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصدا ، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى ، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب ، وعد منها : التفضيل بين الملائكة والأنبياء .
فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين ، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل ، فإن هذا لو كان من الواجبات لبين لنا نصا . وقد قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] .
وفي الصحيح : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد [ ص: 412 ] حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء - رحمة بكم غير نسيان - فلا تسألوا عنها .
فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفيا وإثباتا - والحالة هذه - أولى .
ولا يقال : إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة ، لأن الأدلة هنا متكافئة ، على ما أشير إليه ، إن شاء الله تعالى . وحملني على بسط الكلام هنا : أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم : كان الملك خادما للنبي صلى الله عليه وسلم ! أو : إن بعض الملائكة خدام بني آدم ! ! يعنون الملائكة الموكلين بالبشر ، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع ، المجانبة للأدب .
والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس - : لا شك في رده ، وليس هذه [ المسألة ] نظير المفاضلة بين الأنبياء ، فإن تلك قد وجد فيها نص ، وهو قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] الآية . وقوله تعالى : [ ص: 413 ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ : وسيد المرسلين ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم .
والمعتبر رجحان الدليل ، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه ، بعد أن تكون المسألة مختلفا فيها بين أهل السنة . وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر ، ثم قال بعكسه ، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله .
والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل ، لا على الأفضلية ، ولا نزاع في ذلك .
وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك ، قال في آخره : اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام ، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة ، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد ، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد . ولهذا خلا [ ص: 414 ] عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن ، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان ، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه ، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب . انتهى .
فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة : أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، وذلك دليل على تفضيله عليهم ، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال ، أرأيتك هذا الذي كرمت علي [ الإسراء : 62 ] . قال الآخرون : إن سجود الملائكة كان امتثالا لأمر ربهم ، وعبادة وانقيادا وطاعة له ، وتكريما لآدم وتعظيما ، ولا يلزم من ذلك الأفضلية ، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه عليهما السلام تفضيل ابنه عليه ، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالا لأمر ربهم . وأما امتناع إبليس ، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه ، وهذه المقدمة الصغرى ، والكبرى محذوفة ، تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول ! وكلتا المقدمتين فاسدة :
أما الأولى : فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته ، ولهذا خان إبليس عنصره ، فأبى واستكبر ، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة ، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه ، ونفع آدم عنصره ، في التوبة والاستكانة ، والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب المغفرة ، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة ، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل ، وما دنا منه ينبت ويزكو ، وينمي ويبارك فيه ، ضد النار .
[ ص: 415 ] وأما المقدمة الثانية ، - وهي : أن الفاضل لا يسجد للمفضول - : فباطلة ، فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره ، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة ، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد ، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه ، وإنما يدل على فضله . قالوا : وقد يكون قوله : هذا الذي كرمت علي [ الإسراء : 62 ] بعد طرده لامتناعه عن السجود له ، لا قبله ، فينتفي الاستدلال به .
ومنه : أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات ، والأنبياء لهم عقول وشهوات ، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى ، ومنعوها عما تميل إليه الطباع ، كانوا بذلك أفضل .
وقال الآخرون : يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم ، مع طول مدة عبادة الملائكة .
ومنه : أن الله تعالى جعل الملائكة رسلا إلى الأنبياء ، وسفراء بينه وبينهم . وهذا الكلام قد اعتل به من قال : إن الملائكة أفضل ، واستدلالهم به أقوى ، فإن الأنبياء المرسلين ، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم ، فإن الرسول الملكي يكون رسولا إلى الرسول البشري .
ومنه : قوله تعالى : " وعلم آدم الأسماء كلها الآيات [ البقرة : 31 ] .
[ ص: 416 ] قال الآخرون : وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل ، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، وليس الخضر أفضل من موسى ، بكونه علم ما لم يعلمه موسى ، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر ، وتزود لذلك ، وطلب موسى منه العلم صريحا ، وقال له الخضر : إنك على علم من علم الله ، إلى آخر كلامه . ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام ، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان علما .
ومنه : قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ ص : 75 ] .
قال الآخرون : هذا دليل الفضل لا الأفضلية ، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلتم : هو من ذريته ؟ فمن ذريته البر والفاجر ، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم : ابعث من ذريتك بعثا إلى النار ، يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحدا إلى الجنة . فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط .
[ ص: 417 ] ومنه : قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، الحديث ، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه ، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات .
ومنه : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة ؟ قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان . أخرجه الطبراني .
وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم ، أنه قال : أخبرني الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قالوا . . . . . . . ، الحديث ، وفيه : وينامون ويستريحون ، فقال الله تعالى : [ ص: 418 ] لا ، فأعادوا القول ثلاث مرات ، كل ذلك يقول : لا . والشأن في ثبوتهما ، فإن في سندهما مقالا ، وفي متنهما شيئا ، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله تعالى مرات عديدة ؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 27 ] وهل يظن بهم أنهم بأحوالهم متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم ؟ والنوم أخو الموت ، فكيف يغبطونهم به ؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو ، وهو من الباطل ؟ قالوا : بل الأمر بالعكس ، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور ، إذ أطمعه [ في ] أن يكون ملكا بقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف : 20 ] . فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة ، يشهد لذلك قوله تعالى ، حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف وقلن : حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [ يوسف : 31 ] .
وقال تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ الأنعام : 50 ] .
[ ص: 419 ] قال الأولون : إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفوس : أن الملائكة خلق جميل عظيم ، مقتدر على الأفعال الهائلة ، خصوصا العرب ، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا إن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
ومنه قوله تعالى : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين [ آل عمران : 33 ] .
قال الآخرون : قد يذكر العالمون ، ولا يقصد به العموم المطلق ، بل في كل مكان بحسبه ، كما في قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا [ الفرقان : 1 ] . قالوا أولم ننهك عن العالمين [ الحجر : 70 ] . أتأتون الذكران من العالمين [ الشعراء : 165 ] . ولقد اخترناهم على علم على العالمين [ الدخان : 32 ] .
ومنه قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [ البينة : 7 ] . والبرية : مشتقة من البرء ، بمعنى الخلق ، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق .
قال الآخرون : إنما صاروا خير البرية لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات ، والملائكة في هذا الوصف أكمل ، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون ، فلا يلزم أن يكونوا خيرا من الملائكة . هذا على قراءة من قرأ " البريئة " ، بالهمز وعلى قراءة من قرأ بالياء ، إن قلنا : إنها مخففة [ ص: 420 ] من الهمزة ، وإن قلنا : إنها نسبة إلى البرى وهو التراب ، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في الصحاح - : يكون المعنى : أنهم خير من خلق من التراب ، فلا عموم فيها إذا لغير من خلق من التراب .
قال الأولون : إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ، ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم ، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة ، ونالوا الزلفى ، وسكنوا الدرجات العلا ، وحباهم الرحمن بمزيد قربه ، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر إلى وجهه الكريم .
وقال الآخرون : الشأن في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها ؟ فإن كان قد ثبت أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة سلم المدعى ، وإلا فلا .
ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر : قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون [ النساء : 172 ] . وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال : لن يستنكف الوزير أن يكون خادما للملك ، ولا الشرطي أو الحارس ! وإنما يقال : لن يستنكف الشرطي أن يكون خادما للملك ولا الوزير . ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على [ ص: 421 ] عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره ، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض .
أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها : أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقا ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه .
ومنه قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ الأنعام : 50 ] . ومثل هذا يقال بمعنى : إني لو قلت ذلك لادعيت فوق منزلتي ، ولست ممن يدعي ذلك .
أجاب الآخرون : إن الكفار كانوا قد قالوا : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ الفرقان : 7 ] . فأمر أن يقول لهم : إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب ، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب ، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة .
ومنه ما روى مسلم بإسناده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها .
[ ص: 422 ] قال الآخرون . الظاهر أن المراد المؤمن من البشر - والله أعلم - فلا تدخل الملائكة في هذا العموم .
ومنه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه عز وجل ، قال : يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، الحديث . وهذا نص في الأفضلية .
قال الآخرون : يحتمل أن يكون المراد خيرا منه للمذكور لا الخيرية المطلقة .
ومنه ما رواه ابن خزيمة ، بسنده في كتاب التوحيد عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا جالس إذ جاء جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير ، فقعد في إحداهما ، وقعدت في الأخرى ، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب بصري ، ولو شئت أن أمس السماء مسيت ، فنظرت إلى جبريل كأنه حلس [ ص: 423 ] لاطئ ، فعرفت فضل علمه بالله علي
قال الآخرون : في سنده مقال فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته . وحاصل الكلام : أن هذه المسألة من فضول المسائل . ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول ، وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها ، كما تقدم . والله أعلم بالصواب .
وأتباع الأشعري على قولين : منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولا . وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة . وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية .
وقالت الشيعة : إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة . ومن الناس من فصل تفصيلا آخر . ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض . وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة ، لقلة ثمرتها ، وأنها قريب مما لا يعني ، و من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
[ ص: 411 ] والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات ، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصدا ، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى ، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب ، وعد منها : التفضيل بين الملائكة والأنبياء .
فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين ، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل ، فإن هذا لو كان من الواجبات لبين لنا نصا . وقد قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] .
وفي الصحيح : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد [ ص: 412 ] حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء - رحمة بكم غير نسيان - فلا تسألوا عنها .
فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفيا وإثباتا - والحالة هذه - أولى .
ولا يقال : إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة ، لأن الأدلة هنا متكافئة ، على ما أشير إليه ، إن شاء الله تعالى . وحملني على بسط الكلام هنا : أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم : كان الملك خادما للنبي صلى الله عليه وسلم ! أو : إن بعض الملائكة خدام بني آدم ! ! يعنون الملائكة الموكلين بالبشر ، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع ، المجانبة للأدب .
والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس - : لا شك في رده ، وليس هذه [ المسألة ] نظير المفاضلة بين الأنبياء ، فإن تلك قد وجد فيها نص ، وهو قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] الآية . وقوله تعالى : [ ص: 413 ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ : وسيد المرسلين ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم .
والمعتبر رجحان الدليل ، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه ، بعد أن تكون المسألة مختلفا فيها بين أهل السنة . وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر ، ثم قال بعكسه ، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله .
والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل ، لا على الأفضلية ، ولا نزاع في ذلك .
وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك ، قال في آخره : اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام ، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة ، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد ، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد . ولهذا خلا [ ص: 414 ] عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن ، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان ، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه ، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب . انتهى .
فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة : أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، وذلك دليل على تفضيله عليهم ، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال ، أرأيتك هذا الذي كرمت علي [ الإسراء : 62 ] . قال الآخرون : إن سجود الملائكة كان امتثالا لأمر ربهم ، وعبادة وانقيادا وطاعة له ، وتكريما لآدم وتعظيما ، ولا يلزم من ذلك الأفضلية ، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه عليهما السلام تفضيل ابنه عليه ، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالا لأمر ربهم . وأما امتناع إبليس ، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه ، وهذه المقدمة الصغرى ، والكبرى محذوفة ، تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول ! وكلتا المقدمتين فاسدة :
أما الأولى : فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته ، ولهذا خان إبليس عنصره ، فأبى واستكبر ، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة ، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه ، ونفع آدم عنصره ، في التوبة والاستكانة ، والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب المغفرة ، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة ، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل ، وما دنا منه ينبت ويزكو ، وينمي ويبارك فيه ، ضد النار .
[ ص: 415 ] وأما المقدمة الثانية ، - وهي : أن الفاضل لا يسجد للمفضول - : فباطلة ، فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره ، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة ، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد ، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه ، وإنما يدل على فضله . قالوا : وقد يكون قوله : هذا الذي كرمت علي [ الإسراء : 62 ] بعد طرده لامتناعه عن السجود له ، لا قبله ، فينتفي الاستدلال به .
ومنه : أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات ، والأنبياء لهم عقول وشهوات ، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى ، ومنعوها عما تميل إليه الطباع ، كانوا بذلك أفضل .
وقال الآخرون : يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم ، مع طول مدة عبادة الملائكة .
ومنه : أن الله تعالى جعل الملائكة رسلا إلى الأنبياء ، وسفراء بينه وبينهم . وهذا الكلام قد اعتل به من قال : إن الملائكة أفضل ، واستدلالهم به أقوى ، فإن الأنبياء المرسلين ، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم ، فإن الرسول الملكي يكون رسولا إلى الرسول البشري .
ومنه : قوله تعالى : " وعلم آدم الأسماء كلها الآيات [ البقرة : 31 ] .
[ ص: 416 ] قال الآخرون : وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل ، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، وليس الخضر أفضل من موسى ، بكونه علم ما لم يعلمه موسى ، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر ، وتزود لذلك ، وطلب موسى منه العلم صريحا ، وقال له الخضر : إنك على علم من علم الله ، إلى آخر كلامه . ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام ، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان علما .
ومنه : قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ ص : 75 ] .
قال الآخرون : هذا دليل الفضل لا الأفضلية ، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلتم : هو من ذريته ؟ فمن ذريته البر والفاجر ، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم : ابعث من ذريتك بعثا إلى النار ، يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحدا إلى الجنة . فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط .
[ ص: 417 ] ومنه : قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، الحديث ، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه ، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات .
ومنه : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة ؟ قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان . أخرجه الطبراني .
وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم ، أنه قال : أخبرني الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قالوا . . . . . . . ، الحديث ، وفيه : وينامون ويستريحون ، فقال الله تعالى : [ ص: 418 ] لا ، فأعادوا القول ثلاث مرات ، كل ذلك يقول : لا . والشأن في ثبوتهما ، فإن في سندهما مقالا ، وفي متنهما شيئا ، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله تعالى مرات عديدة ؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 27 ] وهل يظن بهم أنهم بأحوالهم متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم ؟ والنوم أخو الموت ، فكيف يغبطونهم به ؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو ، وهو من الباطل ؟ قالوا : بل الأمر بالعكس ، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور ، إذ أطمعه [ في ] أن يكون ملكا بقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف : 20 ] . فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة ، يشهد لذلك قوله تعالى ، حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف وقلن : حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [ يوسف : 31 ] .
وقال تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ الأنعام : 50 ] .
[ ص: 419 ] قال الأولون : إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفوس : أن الملائكة خلق جميل عظيم ، مقتدر على الأفعال الهائلة ، خصوصا العرب ، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا إن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
ومنه قوله تعالى : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين [ آل عمران : 33 ] .
قال الآخرون : قد يذكر العالمون ، ولا يقصد به العموم المطلق ، بل في كل مكان بحسبه ، كما في قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا [ الفرقان : 1 ] . قالوا أولم ننهك عن العالمين [ الحجر : 70 ] . أتأتون الذكران من العالمين [ الشعراء : 165 ] . ولقد اخترناهم على علم على العالمين [ الدخان : 32 ] .
ومنه قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [ البينة : 7 ] . والبرية : مشتقة من البرء ، بمعنى الخلق ، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق .
قال الآخرون : إنما صاروا خير البرية لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات ، والملائكة في هذا الوصف أكمل ، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون ، فلا يلزم أن يكونوا خيرا من الملائكة . هذا على قراءة من قرأ " البريئة " ، بالهمز وعلى قراءة من قرأ بالياء ، إن قلنا : إنها مخففة [ ص: 420 ] من الهمزة ، وإن قلنا : إنها نسبة إلى البرى وهو التراب ، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في الصحاح - : يكون المعنى : أنهم خير من خلق من التراب ، فلا عموم فيها إذا لغير من خلق من التراب .
قال الأولون : إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ، ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم ، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة ، ونالوا الزلفى ، وسكنوا الدرجات العلا ، وحباهم الرحمن بمزيد قربه ، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر إلى وجهه الكريم .
وقال الآخرون : الشأن في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها ؟ فإن كان قد ثبت أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة سلم المدعى ، وإلا فلا .
ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر : قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون [ النساء : 172 ] . وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال : لن يستنكف الوزير أن يكون خادما للملك ، ولا الشرطي أو الحارس ! وإنما يقال : لن يستنكف الشرطي أن يكون خادما للملك ولا الوزير . ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على [ ص: 421 ] عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره ، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض .
أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها : أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقا ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه .
ومنه قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ الأنعام : 50 ] . ومثل هذا يقال بمعنى : إني لو قلت ذلك لادعيت فوق منزلتي ، ولست ممن يدعي ذلك .
أجاب الآخرون : إن الكفار كانوا قد قالوا : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ الفرقان : 7 ] . فأمر أن يقول لهم : إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب ، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب ، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة .
ومنه ما روى مسلم بإسناده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها .
[ ص: 422 ] قال الآخرون . الظاهر أن المراد المؤمن من البشر - والله أعلم - فلا تدخل الملائكة في هذا العموم .
ومنه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه عز وجل ، قال : يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، الحديث . وهذا نص في الأفضلية .
قال الآخرون : يحتمل أن يكون المراد خيرا منه للمذكور لا الخيرية المطلقة .
ومنه ما رواه ابن خزيمة ، بسنده في كتاب التوحيد عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا جالس إذ جاء جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير ، فقعد في إحداهما ، وقعدت في الأخرى ، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب بصري ، ولو شئت أن أمس السماء مسيت ، فنظرت إلى جبريل كأنه حلس [ ص: 423 ] لاطئ ، فعرفت فضل علمه بالله علي
قال الآخرون : في سنده مقال فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته . وحاصل الكلام : أن هذه المسألة من فضول المسائل . ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول ، وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها ، كما تقدم . والله أعلم بالصواب .
مصدر: Islamweb
0 comments:
Post a Comment