Sunday, 29 September 2013

مذاهب الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر

Sunday, 29 September 2013 0

وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر ، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة ، وإلى المعتزلة تفضيل الملائكة .

وأتباع الأشعري على قولين : منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولا . وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة . وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية .

وقالت الشيعة : إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة . ومن الناس من فصل تفصيلا آخر . ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض . وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة ، لقلة ثمرتها ، وأنها قريب مما لا يعني ، و من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .

[ ص: 411 ] والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات ، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصدا ، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى ، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب ، وعد منها : التفضيل بين الملائكة والأنبياء .

فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين ، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل ، فإن هذا لو كان من الواجبات لبين لنا نصا . وقد قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] .

وفي الصحيح : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد [ ص: 412 ] حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء - رحمة بكم غير نسيان - فلا تسألوا عنها .

فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفيا وإثباتا - والحالة هذه - أولى .

ولا يقال : إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة ، لأن الأدلة هنا متكافئة ، على ما أشير إليه ، إن شاء الله تعالى . وحملني على بسط الكلام هنا : أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم : كان الملك خادما للنبي صلى الله عليه وسلم ! أو : إن بعض الملائكة خدام بني آدم ! ! يعنون الملائكة الموكلين بالبشر ، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع ، المجانبة للأدب .

والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس - : لا شك في رده ، وليس هذه [ المسألة ] نظير المفاضلة بين الأنبياء ، فإن تلك قد وجد فيها نص ، وهو قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] الآية . وقوله تعالى : [ ص: 413 ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ : وسيد المرسلين ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم .

والمعتبر رجحان الدليل ، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه ، بعد أن تكون المسألة مختلفا فيها بين أهل السنة . وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر ، ثم قال بعكسه ، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله .

والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل ، لا على الأفضلية ، ولا نزاع في ذلك .

وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك ، قال في آخره : اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام ، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة ، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد ، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد . ولهذا خلا [ ص: 414 ] عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن ، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان ، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه ، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب . انتهى .

فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة : أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، وذلك دليل على تفضيله عليهم ، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال ، أرأيتك هذا الذي كرمت علي [ الإسراء : 62 ] . قال الآخرون : إن سجود الملائكة كان امتثالا لأمر ربهم ، وعبادة وانقيادا وطاعة له ، وتكريما لآدم وتعظيما ، ولا يلزم من ذلك الأفضلية ، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه عليهما السلام تفضيل ابنه عليه ، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالا لأمر ربهم . وأما امتناع إبليس ، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه ، وهذه المقدمة الصغرى ، والكبرى محذوفة ، تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول ! وكلتا المقدمتين فاسدة :

أما الأولى : فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته ، ولهذا خان إبليس عنصره ، فأبى واستكبر ، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة ، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه ، ونفع آدم عنصره ، في التوبة والاستكانة ، والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب المغفرة ، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة ، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل ، وما دنا منه ينبت ويزكو ، وينمي ويبارك فيه ، ضد النار .

[ ص: 415 ] وأما المقدمة الثانية ، - وهي : أن الفاضل لا يسجد للمفضول - : فباطلة ، فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره ، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة ، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد ، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه ، وإنما يدل على فضله . قالوا : وقد يكون قوله : هذا الذي كرمت علي [ الإسراء : 62 ] بعد طرده لامتناعه عن السجود له ، لا قبله ، فينتفي الاستدلال به .

ومنه : أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات ، والأنبياء لهم عقول وشهوات ، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى ، ومنعوها عما تميل إليه الطباع ، كانوا بذلك أفضل .

وقال الآخرون : يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم ، مع طول مدة عبادة الملائكة .

ومنه : أن الله تعالى جعل الملائكة رسلا إلى الأنبياء ، وسفراء بينه وبينهم . وهذا الكلام قد اعتل به من قال : إن الملائكة أفضل ، واستدلالهم به أقوى ، فإن الأنبياء المرسلين ، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم ، فإن الرسول الملكي يكون رسولا إلى الرسول البشري .

ومنه : قوله تعالى : " وعلم آدم الأسماء كلها الآيات [ البقرة : 31 ] .

[ ص: 416 ] قال الآخرون : وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل ، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، وليس الخضر أفضل من موسى ، بكونه علم ما لم يعلمه موسى ، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر ، وتزود لذلك ، وطلب موسى منه العلم صريحا ، وقال له الخضر : إنك على علم من علم الله ، إلى آخر كلامه . ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام ، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان علما .

ومنه : قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ ص : 75 ] .

قال الآخرون : هذا دليل الفضل لا الأفضلية ، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلتم : هو من ذريته ؟ فمن ذريته البر والفاجر ، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم : ابعث من ذريتك بعثا إلى النار ، يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحدا إلى الجنة . فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط .

[ ص: 417 ] ومنه : قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، الحديث ، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه ، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات .

ومنه : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة ؟ قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان . أخرجه الطبراني .

وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم ، أنه قال : أخبرني الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قالوا . . . . . . . ، الحديث ، وفيه : وينامون ويستريحون ، فقال الله تعالى : [ ص: 418 ] لا ، فأعادوا القول ثلاث مرات ، كل ذلك يقول : لا . والشأن في ثبوتهما ، فإن في سندهما مقالا ، وفي متنهما شيئا ، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله تعالى مرات عديدة ؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 27 ] وهل يظن بهم أنهم بأحوالهم متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم ؟ والنوم أخو الموت ، فكيف يغبطونهم به ؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو ، وهو من الباطل ؟ قالوا : بل الأمر بالعكس ، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور ، إذ أطمعه [ في ] أن يكون ملكا بقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف : 20 ] . فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة ، يشهد لذلك قوله تعالى ، حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف وقلن : حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [ يوسف : 31 ] .

وقال تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ الأنعام : 50 ] .

[ ص: 419 ] قال الأولون : إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفوس : أن الملائكة خلق جميل عظيم ، مقتدر على الأفعال الهائلة ، خصوصا العرب ، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا إن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .

ومنه قوله تعالى : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين [ آل عمران : 33 ] .

قال الآخرون : قد يذكر العالمون ، ولا يقصد به العموم المطلق ، بل في كل مكان بحسبه ، كما في قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا [ الفرقان : 1 ] . قالوا أولم ننهك عن العالمين [ الحجر : 70 ] . أتأتون الذكران من العالمين [ الشعراء : 165 ] . ولقد اخترناهم على علم على العالمين [ الدخان : 32 ] .

ومنه قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [ البينة : 7 ] . والبرية : مشتقة من البرء ، بمعنى الخلق ، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق .

قال الآخرون : إنما صاروا خير البرية لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات ، والملائكة في هذا الوصف أكمل ، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون ، فلا يلزم أن يكونوا خيرا من الملائكة . هذا على قراءة من قرأ " البريئة " ، بالهمز وعلى قراءة من قرأ بالياء ، إن قلنا : إنها مخففة [ ص: 420 ] من الهمزة ، وإن قلنا : إنها نسبة إلى البرى وهو التراب ، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في الصحاح - : يكون المعنى : أنهم خير من خلق من التراب ، فلا عموم فيها إذا لغير من خلق من التراب .

قال الأولون : إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ، ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم ، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة ، ونالوا الزلفى ، وسكنوا الدرجات العلا ، وحباهم الرحمن بمزيد قربه ، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر إلى وجهه الكريم .

وقال الآخرون : الشأن في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها ؟ فإن كان قد ثبت أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة سلم المدعى ، وإلا فلا .

ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر : قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون [ النساء : 172 ] . وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال : لن يستنكف الوزير أن يكون خادما للملك ، ولا الشرطي أو الحارس ! وإنما يقال : لن يستنكف الشرطي أن يكون خادما للملك ولا الوزير . ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على [ ص: 421 ] عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره ، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض .

أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها : أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقا ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه .

ومنه قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ الأنعام : 50 ] . ومثل هذا يقال بمعنى : إني لو قلت ذلك لادعيت فوق منزلتي ، ولست ممن يدعي ذلك .

أجاب الآخرون : إن الكفار كانوا قد قالوا : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ الفرقان : 7 ] . فأمر أن يقول لهم : إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب ، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب ، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة .

ومنه ما روى مسلم بإسناده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها .

[ ص: 422 ] قال الآخرون . الظاهر أن المراد المؤمن من البشر - والله أعلم - فلا تدخل الملائكة في هذا العموم .

ومنه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه عز وجل ، قال : يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، الحديث . وهذا نص في الأفضلية .

قال الآخرون : يحتمل أن يكون المراد خيرا منه للمذكور لا الخيرية المطلقة .

ومنه ما رواه ابن خزيمة ، بسنده في كتاب التوحيد عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا جالس إذ جاء جبريل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير ، فقعد في إحداهما ، وقعدت في الأخرى ، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب بصري ، ولو شئت أن أمس السماء مسيت ، فنظرت إلى جبريل كأنه حلس [ ص: 423 ] لاطئ ، فعرفت فضل علمه بالله علي

قال الآخرون : في سنده مقال فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته . وحاصل الكلام : أن هذه المسألة من فضول المسائل . ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول ، وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها ، كما تقدم . والله أعلم بالصواب . 




مصدر: Islamweb

Wednesday, 18 September 2013

فضل اللغة العربية

Wednesday, 18 September 2013 0
إن القرآن الكريم هو الذي وحَّد اللهجات العربية في بوتقة واحدة , فتحصنت اللغة العربية , ثم جاء المغول ليخنقوها , وقذفوها في مياه دجلة , إلا أنها لم تختنق ولم تغرقها مياه دجلة العارمة , فهبت اللغة العربية منتصبة على قدميْها .
وجاء ( نابليون ) يريد محوها ودفنها , فلم يستطع وأعلنت العربية عن وجودها .
وجاءت حركة ( الاتحاد والترقي ) في العهود الأخيرة من عمر الخلافة العثمانية , يريدون الكيد منها , فباءوا بالفشل الذريع .
وعقدت مؤتمرات ( باريس ) لمحو اللغة العربية من أرض الجزائر , فما استطاعوا أن يطفئوا نار حقدهم , هذه اللغة العظيمة , أي شيء أكسبها هذا الخلود والبقاء , لا شك
ولا ريب إنه كتاب الله ( القرآن الكريم ) .
ولهذا نفهم كلام العرب الذي قالوه قبل عشرات القرون , بينما الفرنسيون والإنكليز وغيرهم لا يستطيعون أن يفهموا ما كُتب قبل أربعمائة عام , إلا بجهد جهيد , وبالاستعانة بالمعجمات لحل غموض اللغة التي يسمونـها ( الكلاسيكية ) أو ( القديمة ) بعد أن تغيرت قواعدها , على عكس العربية .

لقد أكد القرآن الكريم حقيقة عروبته في آيات كثيرة , منها قوله تبارك وتعالى :

(إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)[1] , وقوله :(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون)[2], وقوله أيضاً :(كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون)[3].

ومع تأكيد القرآن هذه الحقيقة فقد نفى أن يكون فيه لسان غير عربي .
قال الإمام الشافعي :
( فأقام [ الله سبحانه وتعالى ] حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها , ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ـ جل ثناؤه ـ كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه )[4]:
فقال الله تعالى :(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)[5], وقال الله تعالى :(ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي)[6].
فالقرآن الكريم لم يخرج من مألوف العرب في لغتهم العربية , من حيث المفردات والجمل, فمن حروفهم تألفت كلماته , ومن كلماته ركبت جمله , ومن قواعدهم صيغت مفرداته, وتكونت جمله , وجاء تأليفه , وأحكم نظمه , فكان عربياً جارياً على أساليب العرب وبلاغتهم , ولكنه أعجزهم بأسلوبه وبيانه ونظمه الفذ , إلى جانب نفوذه الروحي , وأخباره بالغيوب , ومعانيه الصادقة , وأحكامه الدقيقة العادلة , والصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان , وهو الكتاب الوحيد الذي تحدى منزله ـ جل جلاله ـ البشر كافة أن يأتوا بمثله .

كما يجب علينا أن نلاحظ أن القرآن الكريم , لم يعبر بكلمة (لغة) , وإنما عبر بـ(اللسان) بمعنى اللغة .
قبل نزول القرآن الكريم كان العرب يتكلمون اللغة العربية بالسليقة والسجية , فصيحة معربة , سليمة من اللحن والاختلال , ولم تكن لها قواعد مدونة , والنحو المدون لم يظهر حتى ظهر نور الإسلام , ونزل به القرآن , فخرج جيل الفتح الأول داعين إلى توحيد الله, مبشرين بدينه , حاملين كتابه بلسان عربي مبين , فانتشرت العربية بانتشار الإسلام , وكتب العلماء المسلمون من غير العرب أكثر من علماء العرب , وبذلك أصبحت العربية عالمية مقدسة , ومنتشرة في كثير من أقطار الأرض .

لقد كان للغة العربية ـ بفضل الإسلام ـ أنصار ومحبون من غير العرب, وكان لها منهم علماء وأعلام عرَّبـهم الإسلام , حتى كان منهم أصحاب المؤلفات الرائعة , في قواعد اللغة العربية وفي بلاغة القرآن الكريم.
بل إن أعظم كتاب في النحو العربي هو كتاب سيبويه الفارسي .
ومن أعظم كتب العربية وفقهها (الخصائص) لأبي الفتح عثمان بن جني الرومي اليوناني.
وأشهر وأوثق مرجع لغوي في العربية (القاموس المحيط) لأبي طاهر محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروزابادي وهو هندي .
وأشهر كتب إعجاز القرآن الكريم وأفضلها , مؤلفوها من غير العرب , نذكر منهم :
أحمد بن محمد الخطابي البستي الأفغاني.
وأبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني.
وعبد القاهر ابن عبد الرحمن الجرجاني.
وغيرهم كثير , ألفوا الكتب في مختلف الدراسات القرآنية, وفروع العربية وآدابها[7].
وهكذا صاروا مضرب الأمثال ,حتى أصبحنا إذا أردنا مدح أحد من علماء العرب , ألحقناه بأحدهم وشبهناه به فقلنا : فلان سيبويه عصره , أو زمخشري زمانه .

لقد أصبحت اللغة العربية , لغة الدين الحق الذي يؤمن به مئات الملايين من الناس خارج الوطن العربي , ويغارون عليها , ويفضلونها على لغاتهم الأولى , ويرون أنها أفضل اللغات وأحقها بالحياة , وهي أقوى وسيلة من وسائل الترابط والوحدة بين العرب أنفسهم , وبينهم وبين المسلمين الذين يتكلمون بها في البلاد الإسلامية , وهي أقوى من رابطة النسب والدم , لأن الدم لا يمكن استصفاؤه بسبب التصاهر والتزاوج , والعربية بما تحمله من رسالة هذا الدين وكتابه , هي أساس العلاقات الحضارية والثقافية والاجتماعية بين العرب والمسلمين , بها تتوحد أساليب التفكير والتعبير , ويمكن التفاهم والتعاون على البر والتقوى , ونصرة الإسلام , وهي الحصن الحصين الذي يحول دون احتلال عقول أبنائها بآراء وأفكار وافدة .
ولقد بلغ من حب السلف الصالح للغة العربية , وإعجابهم بعبقريتها , أن قال أبو الريحان البيروني :
(والله لأن أُهجَى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية)[8].

تلك من بعض حكمة الباري ـ جل جلاله ـ الذي أرسل كل رسول بلسان قومه , ولغة أمته التي بعث إليها , لدعوتها إلى الله باللسان الذي تفهم به وليكون لبيان الرسول أثر وتأثير , قال الله تبارك وتعالى :(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [9] .
ولما كانت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم خاتمة وعامة , فقد وجب على جميع الناس والأمم الإيمان به واتباعه , ولا يكمل دين المرء إلا بتلاوة شيء من الكتاب العربي الذي أنزله الله تعالى , مما يجعل لغته لغة أتباعه وأمته , وأمة العروبة ليست أمة بالنسب والدم فقط , وإنما من تكلم العربية فهو عربي اللسان والثقافة والانتماء , وقد كان العرب يقولون : كل من سكن بلاد العرب وجزيرتـها ونطق بلسان أهلها ، فهم عرب[10].

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي , فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل , فما بال هؤلاء ؟
فقام معاذ بن جبل , فأخذ بتلابيبه ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته , فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً يجر رداءه , حتى دخل المسجد ثم نودي : إن الصلاة جامعة , فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد :
أيها الناس إن الرب رب واحد , والأب أب واحد , والدين دين واحد , وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم , إنما هي لسان , فمن تكلم بالعربية فهو عربي , فقام معاذ بن جبل فقال : بم تأمرنا في هذا المنافق ؟
فقال : دعه إلى النار , فكان قيس ممن ارتدَّ فقتل في الردة[11].

إذن العربية ليست بالولادة ولا بالنسب والسلالة , وإنما بالكلام , فمن تكلم العربية فهو عربي !
ولذلك استطاعت العربية أن تجمع تحت رايتها أمماً وأنساباً وأعراقاً ودماء شتى ممن يدينون بالإسلام .
ثم إن علوم العربية الرئيسية , وهي علم اللغة والنحو والصرف والبلاغة بأقسامها الثلاثة , الفضل الأول في نشأتها ونموها واستمرارها يرجع إلى القرآن الكريم , وحرص المسلمين الشديد على المحافظة عليه , والدفاع عنه , وبيان إعجازه , ولما فزع العرب من انتشار اللحن في العربية , هبّوا لتقنين العربية بابتكار النحو لدرء الخطر عنه , وتعليم الداخلين في الإسلام العربية مقعّدة ومبوَّبة , ثم كان ابتكار نقط الإعراب الذي تطور إلى الشكل المعروف(الفتحة والكسرة والضمة والسكون ) .

ولقد اشترط علماء الإسلام على من يريد تفسير القرآن الكريم , أن يكون واسع العلم بالعربية وأساليبها وعلومها وعلوم الإسلام التي منها علوم القرآن , لاستنباطها منه , ونشأتها في رحابه , واستمرار الحياة لها بحفظه , قال مجاهد : (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر , أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب)[12].

وقال الإمام مالك :(لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً )[13].

وقال الإمام الشافعي : ( فإن قال قائل : ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره ؟

فالحجة فيه كتاب الله , قال الله تعالى :(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)[14].

فإن قال قائل : فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة , وإن محمد بعث إلى الناس كافة , فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة , ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه , ويحتمل أن يكون بُعِث بألسنتهم , فهل من دليل على أنه بُعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟؟

فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض , فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض , وأن يكون الفضل في اللسان المتبَّع على التابع , وأولى الناس بالفضل باللسان , مَن لسانُه لسان النبي , ولا يجوز _ والله أعلم _ أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان في حرف واحد , بل كل لسان تبع للسانه , وكل أهل دين قبله عليهم اتباع دينه , وقد بيَّن الله ذلك في أكثر آية من كتابه , قال الله تعالى :(وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) [15] وقال:( وكذلك أنزلناه حكماً عربياً)[16] ، وقال :(وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها)[17].

وقال الشافعي أيضاً : ( وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره , لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب , وكثرة وجوهه , وجماع معانيه وتفرقها , ومن عَلِمَه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها)[18].
واللغة العربية أيضاً , لغة الغنى والثراء والسعة , قال الإمام الشافعي : (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً , وأكثرها ألفاظاً , ولا نعلمه يحيط بجميع علمه نبي , ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها )[19].
فلا يمكن لأحد إحصاء جميع الألفاظ العربية , مهما بلغ في اللغة شأواً بعيداً , وفي اللغة العربية كثير من الأسماء لمسمى واحد , كأسماء الأسد والحية والعسل , وممن ألف في المترادف , العلامة مجد الدين الفيروز أبادي صاحب ( القاموس ) , ألف فيه كتابا سماه : ( الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف ) , وأفرد خلقٌ من الأئمة كتباً في أسماء أشياء مخصوصة , فألف ابن خالويه كتاباً في ( أسماء الأسد ) , وكتاباً في ( أسماء الحية ), ذكر أمثلة من ذلك ( العسل ) له ثمانون اسماً , أوردها صاحب ( القاموس ) في كتابه الذي سماه : ( ترقيق الأسل لتصفيق العسل)[20].
والعجب كل العجب من أولئك الذين يشكون من فقر اللغة العربية , وعجزها عن مواكبة العصر , والتطوُّر العلمي الهائل , ولله در الشاعر العربي حافظ إبراهيم , الذي قال على لسان العربية :
 

 
 
رجعت لنفسي فاتهمـت  حصاتـي     وناديت قومي فاحتسبـت  حياتـي
رَمَوْني بعقم في الشبـاب  وليتنـيع      قمت فلم أجـزع لقـول  عُداتـي
وسعت كتـاب الله لفظـاً  وغايـة       وما ضُقْت عن آي بـه  وعظـات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلـة        وتنسيـق أسـمـاء لمختـرعـات
أنا البحر في أحشائه الـدر  كامـن        فهل ساءلوا الغوَّاص عن صَدَفاتي ؟
 
كما أن اللغة العربية لغة اشتقاقية , تقوم على أبواب الفعل الثلاثي , لذلك فإن خزائنها من المفردات يمكن أن تزداد دائماً , وكل الكلمات المشتقة من أصل ثلاثي معها المعنى الأصلي , بخلاف غيرها من اللغات , فالاشتقاق من أبرز هذه اللغة وخصائصها , وهو ثابت عن الباري سبحانه وتعالى .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( أَنَا الرَّحْمَنُ , خَلَقْتُ الرَّحِمَ , وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي اسْمًا , فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ , وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ)[21].

وعدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية , خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً و أربعمائة لفظ , من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ , بينما نجد غيرها من اللغات الأوربية لا يبلغ عدد مفرداتها معشار ما بلغته مفردات العربية[22].
واللغة العربية لغة الفصاحة والبيان ، قال الفارابي في (ديوان الأدب):
(هذا اللسان كلام أهل الجنة ,وهو المنـزه من بين الألسنة من كل نقيصة , والمعلى من كل خسيسة , والمهذب ما يستهجن أو يستشنع , فبنى مباني باين بها جميع اللغات من إعراب أوجده الله له , وتأليف بين حركة وسكون حلاَّه به , فلم يجمع بين ساكنَيْن , أو متحركَيْن متضادَّيْن , ولم يلاق بين حرفَيْن لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحس السمع , كالغين مع الحاء , والقاف مع الكاف , والحرف المطبق مع غير المطبق , مثل تاء الافتعال ,و الصاد مع الضاد في أخوات لهما , والواو الساكنة مع الكسرة قبلها , والياء الساكنة مع الضمة قبلها , في خلال كثيرة من هذا الشكل لا تحصى )[23].

واللغة العربية ناضجة , ومرنة , وينطبق هذا على نحوها ومفرداتها وتراكيبها وسماتها الدلالية , فلا يكون المتكلم بالعربية ملزماً بترتيب عقيم للكلمات , كالمتكلم بالإنكليزية , فإنه يتبع ترتيباً معيَّناً : ( فاعل _ فعل _ مفعول به ) , فإذا أردت أن تقول : ( أكل زيد لحماً ) يجب أن يكون الترتيب : ( زيد أكل لحماً ) , ولا يجوز أن تقول : ( أكل زيد لحماً ) ولا ( لحماً أكل زيد ) ولا ( أكل لحماً زيد ) , بينما يجوز في اللغة العربية أن تقول كل هذه الصيغ , وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق أواخر الكلمات , وتميز الفعل من الفاعل والمفعول به , ونظام الإعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية .
وللغة العربية تأثيرها الفعَّال في اللغات الأوربية , كالإسبانية مثلاً , فإنه يوجد في اللغة الإسبانية ما يزيد على / 2500 / كلمة من أصل عربي , ومعظم الكلمات الإسبانية المبدوءة بأل هي من أصل عربي , وكثير من المصطلحات العلمية الأوربية هي من أصول عربية وضعها العرب , وبقيت في تلك اللغات دون أن يكون لها مرادفات لاتينية أو إسبانية .
وإذا قابلنا اللغة العربية بلغات العالم الأخرى , لوجدناها أنها اللغة السادسة من حيث عدد المتكلمين بها , كما أنها اللغة الأكثر انتشاراً في أفريقيا وغرب آسيا , لكونها اللغة الدينية لأكثر من مليار مسلم .
لقد خاضت اللغة العربية صراعات عنيفة في القرون الأولى للإسلام , وانتصرت عليها , وحلت محلها في ميادين الدين والأدب والعلم , وكادت أن تتعرب الشعوب الإسلامية كلها , إلا أنها لاقت صعوبات جمة من الشعوبية التي تعادي العرب , وتحتقر آدابهم , من أولئك الذين لم يتمكن الإسلام من نفوسهم , حتى تركت اللغة مكانها في مواطن كثيرة من أرض الإسلام , وها هو الشاعر العربي المتنبي , حينما مرَّ بشِعب بَوَّان[24] من أرض فارس ( إيران ) , أحسَّ بغربة اللسان والانتماء والوجود فقال :
 
 
 
مغاني الشعب طيباً في المغاني     بمنزلة الربيع مـن  الزمـان
ولكن الفتـى العربـي  فيهـا     غريب الوجه واليد  واللسـان
ملاعب جنة لو سـار  فيهـا    سليمان لسار  بترجمـان[25]
 
ولكن العربية بقيت لغة الدين الإسلامي , وعلماء العربية يحرصون عليها ويدافعون عنها , ويتضح ذلك في قول أبي القاسم محمود الزمخشري الخوارزمي , في مقدمة كتابه (المفصل):
( اللهَ أحمد على أن جعلني من علماء العربية , وجبلني على الغضب للعرب والعصبية , وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز , وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز , وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين , والمشق بأسنة الطاعنين )[26].
ولا شك أيضاً أن القرآن الكريم بانتقاله مشافهة متواترة , حفظ للعربية أصوات حروفها , وضبط لها مخارجها وأحكام نطقها , وقامت بين اللغة العربية والإسلام صلات وصلات يكثر تعدادها , ويصعب حصرها , فلا إسلام بلا قرآن , كما أنه لا قرآن بغير اللغة العربية , وليس صادقاً في ادّعائه القومية العربية , من لم يدْعه إخلاصه للغة العربية , وصدقه في حبها , إلى العناية بالقرآن الكريم وهو كتابها الأكبر , ونموذج أدبها المعجز , إنه منها صوته وصورته .

ولقد دوَّت أبواق الباطل في كل مكان , رافعة عقيرتها , وناعقة بالتمرد على اللغة العربية و تفتيتها وتمزيقها ـ والهدف هو القضاء على القرآن ـ لأن القرآن عربي , والعربية لغة القرآن, وارتباط كتاب سماوي منزَّل بلغة بعينها , أمر لا يعرف إلا لهذا الدين وهذه اللغة العربية وقد قال الله تبارك وتعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[27].
لقد شدَّ الإسلام أقواماً غير عرب إلى لغة العرب , ونشر اللغة العربية في بلاد لم يكن لها فيها نصير, ولا للعرب فيها سلطان , ولقد خرجت اللغة العربية من جزيرة العرب مع الفتح الإسلامي فإذا هي لغة أهل الشام والعراق ومصر وغيرها , وإذا بها تتعدَّى كونها لغة دين إلى لغة شعب ودولة .
ولا زال للإسلام أثره في نشر اللغة العربية , والحفاظ عليها في بلاد غير عربية , وأثره يفوق كثيراً آثار المراكز الثقافية التي نراها اليوم منتشرة في بلدان العالم , ثم إن أصحاب هذه المراكز, ينفقون الأموال الطائلة في سبيل الدعاية لمراكزهم وثقافتهم ونشر لغتهم , على حين أن الإسلام يجعل من البلاد التي ينتشر فيها , شعوباً راغبة في تعلم لغته , وما أكثر ما نسمع أصواتاً ترتفع في تلك البلاد , مطالبة بإرسال المدرسين العرب لتعليم اللغة العربية , أو مطالبة بقبول أبنائها في مدارس البلاد العربية , ليتعلموا اللغة العربية .

لقد استهوى الإسلام أقواماً فحبب إليهم لغته , بل كان الفضل عظيماً للإسلام في ظهور عدد لا يحصى من العلماء غير العرب , الذين بلغوا القمة في لغة العرب وعلومها من نحو وصرف وبلاغة, وهذا سيبويه , يقسم ليطلبنَّ علماً يزيل عنه اللحن , فانصرف إلى طلب النحو , ولم يكن من غرضه وقصده تعلم اللغة العربية , وإنما كان يريد علماً يفقهه في الدين .
فقد رووا أن سبب تعويله على الخليل في طلب النحو مع ماكان عليه من الميل إلى التفسير والحديث , فإنه سأل يوماً حماد بن سلمة فقال له :
أحدثك هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعُف في الصلاة ( بضم العين ) ؟
فقال لـه حماد : أخطأتَ إنما هو رعَف ( بفتح العين ) , فانصرف إلى الخليل فشكا إليه ما لقيه من حماد
فقال لـه الخليل : صدق حماد ، ومثل حماد يقول هذا , ورعُف بضم العين لغة ضعيفة .
وقيل : إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس , وكان مولده ومنشؤه بـها, ليكتب الحديث ويرويه فلزم حلقة حماد بن سلمة, فبينما هو يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم :
ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء .
فقال سيبويه : ليس أبوالدرداء ( بالرفع ) وخمنه اسم ( ليس )
فقال لـه حماد : لحنت يا سيبويه , ليس هذا حيث ذهبت , إنما ( ليس ) ههنا استثناء
فقال سيبويه : سأطلب علماً لا تلحنني فيه, فلزم الخليل وبرع في العلم[28].

لقد خرجت لغة الدين الحق الذي يؤمن به الملايين من الناس , خارج وطنها الأصلي, ويغارون عليها, ويفضلونها على لغتهم الأولى, ويرونـها أفضل اللغات , وأحقها بالحياة, خرجت إلى الدنيا, وأصبحت عالمية مقدسة, لأنـها لغة القرآن الكريم, وهي من أقوى وسائل الترابط بين العرب والمسلمين , لذلك استطاعت اللغة العربية أن تجمع تحت رايتها أمماً وأنساباً وأعراقاً ودماء شتى ممن يدينون بالإسلام .

خرجت لغة العرب من لغة قوم إلى لغة أقوام , ومن لغة محدودة بحدود أصحابـها , إلى لغة دعوة جاءت إلى البشر كافة , فكانت لسان تلك الدعوة , ولغة تلك الرسالة , ومستودع ما نتج من تلك الرسالة من فكر وحضارة .
لقد عرف العرب كمال لغتهم في القرآن الكريم فاجتمعوا عليه , وأجمعوا على إعجازه , ولو لم يجتمعوا عليه لزاد ما بين لهجاتـهم من تباين واختلاف , ولازدادوا بُعداً عن فصاحة لسانـهم ووحدة لغتهم , تلك الوحدة اللغوية هي التي نزل القرآن فرسخها وأرسى قواعدها , ولو لم يوطد القرآن لهذه اللغة الموحدة أسبابـها , ويرسخ لها بنيانـها, لكان لها من لهجاتـها القديمة والحديثة وما تتأثر به من عوامل مختلفة , لغات ولغات .

ومما لا شك فيه أيضاً أن القرآن الكريم بانتقاله مشافهة ومتواترة , حفظ للغة العربية أصوات حروفها, وضبط مخارجها وأحكام نطقها , فحرف الجيم مثلاً في الشام غيرها في مصر , ولكن إذا رتَّل الشامي والمصري القرآن الكريم عاد الحرف إلى مخرجه الأصلي الصحيح , وأداه بصفاته وأحكامه .
لقد قامت بين اللغة العربية والإسلام صلات وثيقة يكثر تعدادها , ويصعب حصرها , فلا إسلام بلا قرآن , ولا قرآن بغير اللغة العربية , والعربية أقرب الطرق الموصلة إلى فهم الإسلام, وإدراك معانيه ومقاصده من منابعه العربية الأصيلة .
لذا لما أدرك الأذكياء من أعدائنا , أعداء العرب والمسلمين , أن الإسلام اتخذ العربية لساناً له, راحوا يصبون جام غضبهم وحقدهم على الإسلام وذلك بالطعن في اللغة العربية , يريدون أن يهدموا الجسر المؤدي بأهلها إليه , فكم من سهم وُجِّه إلى العربية ولا يراد به إلا الإسلام .
يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها :(يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم .... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم, حتى ننتصر عليهم)[29].

إنـهم لا يرون الخطر الحقيقي إلا في الإسلام , لأنه لا يوجد مكان على وجه الأرض
إلا وقد اجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه , فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه , ومنذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً , بل إن أتباعه يزدادون باستمرار .
إن الاستعمار بعد أن يئس أن تكون لـه ركائز في أرضنا , فكَّر وقدَّر , فقتل كيف قدَّر, ثم نظر, ثم تقدَّم وتطوَّر , واقتنع أن تكون له ركائز في أفكارنا , ووجد ذلك أسهل عليه وأخفى علينا, وأخذ يبثُّ سمومه وأفكاره , كلام في ظاهره الحرص على الإصلاح , ومن باطنه الحقد المتسعِّر والبغض الدفين .
وواجب العقلاء والمفكرين وحملة الأقلام المؤمنة , أن يؤدوا لهذه الأمة حقها من حصيلة عقولهم وأفكارهم وأقلامهم , إن لكل شيء زكاة , وزكاة العقل والفكر والقلم أن يقول كلمة الحق ويظل مرابطاً يتصدَّى للباطل , وإذا جاهد من يستطيع الجهاد بالنار والحديد , أو بالمال والعتاد, أفلا يجاهد صاحب الفكر والقلم بكلمة حق يقولها ؟ !
إن ضياء كلمة الحق ليس بأضأل من وهج الدماء المتدفقة من جروح الشهداء .
ثم إن الإقلال من ساعات تدريس القرآن الكريم في مدارسنا , سهم مسموم, موجَّه إلى اللغة العربية, قبل أن يكون سهماً إلى العقيدة الإسلامية , لذلك نرى طفل اليوم يتجاوز المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية , ثم يأخذ مكانه في مدرجات الجامعة وهو لا يزال يتعثر العثرات المتوالية في تلاوة القرآن الكريم , ولأجل هذا كله أخذ مستوى إتقان اللغة العربية, وتذوق آدابها ينحط تدريجياً في مختلف مراحل الدراسة[30].

إن الذين لا يولون القرآن كبير عناية , في عروبتهم نقص كبير , فبين العربية والقرآن أواصر لا تقطع, وصلات لا تدفع, ولا يطعن في العربية باسم الإسلام إلا شعوبي , ولا يطعن في الإسلام باسم العربية إلا جاهل أو غبي .

هذه اللغة العربية الخالدة والمشرقة , أي شيء أكسبها هذا الخلود وهذا الإشراق ؟
لا ريب أن كل عربي سواء كان مسلماً أو غير مسلم , وكل مسلم عربياً كان أو أعجمياً, يعلم الجاذبية التي سرت في هذه اللغة , فأكسبها الديمومة والبقاء , هذه الجاذبية والروح الجبارة هي القرآن الكريم, إنه قطب الرحى للأمة الإسلامية .
إن القرآن الكريم قد مدَّ سلطان اللغة العربية على منطقة من أوسع مناطق الدنيا , واخترق بها قارات ثلاثاً هي : آسيا وأفريقيا وأوربا ( الأندلس ), وجعل العربية هي اللغة العالمية المشتركة المنشودة , فكل مسلم يشعر أن العربية لغته لأن القرآن قد نزل بـها . 


مصدر:

http://www.moe.edu.kw/_layouts/Moe/Forms/schools-2/ahmedy/primaryschools/boys/Sayed-Ragab/%D9%90ArabicWhy.htm
 

Sunday, 25 August 2013

حزب التحرير ينكر مبدأ الإيمان يزيد وينقص

Sunday, 25 August 2013 0
السؤال
ما هو الرد على جماعة حزب التحرير الذين يقولون إن الإيمان الذي هو التصديق الجازم لا يزيد ولا ينقص وإنما التقوى واليقين يزيدان وينقصان؟
جزاكم الله خيرا.
الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فيعرف أتباع حزب التحرير الإيمان بأنه التصديق الجازم الذي يقوم عليه دليل، وقالوا إن هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والذي يزيد وينقص عندهم هو ثمرات هذا الإيمان، وهذا مبني على أصل عندهم وهو أن العمل ليس داخلا عندهم في مسمى الإيمان، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، وقد نقل بعض أهل العلم إجماع الصحابة والتابعين على هذا، فيمكنك مراجعة الفتويين:12517، 17836.  
وقد حمل أتباع هذا الحزب الآيات التي دلت على زيادة الإيمان ونقصانه على أن المقصود بها ثمرات الإيمان لا الإيمان نفسه، وهذا تحكم منهم لا دليل عليه، وأما الأحاديث فقالوا هي أحاديث آحاد لا يحتج بها في العقيدة، وقد بينا في فتاوى سابقة أن الحديث إذا ثبتت صحته فهو حجة في العقائد والأحكام. وراجع الفتوى رقم: 68449.
والله أعلم.       

Saturday, 24 August 2013

ابن العلقمي .. وسقوط بغداد سنة 656 ه

Saturday, 24 August 2013 0
 - تاريخ وعبرة -

أجمع المؤرخون على تلقيب ابن العلقمي الشيعي ( بالوزير المشؤوم ) ذلك لأنه خان المسلمين ، انتصارا للشيعة ، فكاتب التتار واستقدمهم لقتل المسلمين ، فلما حضروا لم يفرقوا بين سني ولا شيعي ، فقتلوهم معا ، واعتدوا على أعراضهم معا ، حتى إنهم لم يبالوا بابن العقمي نفسه ، فأهانوه إهانات لم يحتملها ، فمات غما وهما وحزنا وكمدا ..

وقد قيل إن ابن العلقمي تسبب بخيانته هذه ، في قتل حوالي مليوني إنسان من أهل بغداد ، وسقطت بها الخلافة ، واستبيحت مئات المدن الإسلامية ، وهتكت أعراض نسائها ، وقتل الآلاف من علمائها ، ووجهائها ، وأمرائها ، وأعيانها ... وكان جديرا بأن يلقب ( بالوزير المشؤوم ) لأن شؤمه عمَّ الأمة الإسلامية بأسرها .؟؟

وملخص الحكاية :

أن ابن العلقمي كان يشغل منصب الوزير الأول ، أي رئيس وزراء دار الخلافة في زمانه ، وكان له من العز والجاه ، ما لا يفوقه فيهما أحد من الرعية . ومع ذلك لم يمنعه ما وصل إليه من مجد وسلطان ، أن يغدر بولي نعمته الخليفة ، بل ويغدر بكل المسلمين ، دون أي مبرر لهذا الغدر ، سوى الحقد الأعمى ، الذي يغلي في صدر كل شيعي ، على أبناء السنة من المسلمين .. فقد عمد هذا الرجل إلى مكاتبة التتار ، وإغرائهم بالهجوم على بغداد ، وقتل الخليفة وكل رجالات أهل السنة فيها ... رجاءَ أن يقيموه في مكان الخليفة ، ويجعلوه خادما لهم في بغداد ، ويدين إليهم بعدها بالولاء مدى الحياة ، ويؤدي لهم ما يفرضونه عليه من أرزاق وإتاوات ...

وكان يَعمَدُ في مكاتباته إلى طرقٍ خبيثة جدا ، من ذلك ما ذكره الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات : " حُكِيَ أنَّ ابنَ العلقمي أخَذَ رجلاً وحَلَقَ رأسَه حلقاً بليغاً ، وكتبَ ما أراد عليه بوخز الإبر ، كما يُفْعَلُ بالوشم ، ونَفَضَ عليه الكُحْلَ ، وتَرَكَهُ عنده إلى أنْ طَلَعَ شعرُهُ ، وغطَّى ما كتب ، فجهَّزَهُ ، وقال إذا وصلتَ إلى التتار ، فمُرْهُمْ بحلْقِ رأسِكَ ، ودَعْهُمْ يقرأون ما فيه ... وكان في آخر الكلام ( قَطِّعُوا الورقة ) .. فوصلَ حامل الرسالة إلى التتار ، وحلقوا رأسه ، ثم قرأوا الرسالة الموشومة على رأسه ، ثم ضربوا رقبته عملا بوصية ابن العلقمي بتقطيع الورقة .

وكان ابن العقمي يُمَهِّدُ لهزيمة المسلمين بالكيد لهم في الخفاء . فقد أقنع الخليفة بتسريح الجند ، والاكتفاء منهم بالعدد اليسير ، وقال له : إن رواتب هؤلاء الجند تجشِّمُ الخلافةَ مبالغَ ماليةً طائلة في غير طائل . فسرَّحَ الخليفةُ (90) ألف مقاتل ، ولم يبق لديه سوى (10) آلاف . فاشتد بذلك حَنَقُ الجُندِ المسرَّحين على الخليفة ، لأنهم ساءت أحوالهم المعيشية بعد التسريح ، حتى اضطر بعضهم بضغط الحاجة إلى ذُلِّ السؤال ، والتَّكَفُّفِ على أبواب المساجد . وكان هؤلاء الجُنْدُ قبل ذلك يغزون ويغنمون ويعودون بالخير على أنفسهم وعلى المسلمين .

ولما توصَّل ابنُ العلقمي إلى إضعاف قوة الخلافة ، بتسريح الجند ، وأثار بذلك حفيظتهم على الخليفة ، سارعَ إلى مراسلة التتار ، وأخبرهم بأن الفرصة أصبحت سانحة لهم ، فالخليفة قليلُ الجند ، وشعبه ناقم عليه ، ويريد الخلاصَ منه ، وما عليكم إلا محاصرة بغداد ، ولسوف تفتح لكم أبوابها بدون عناء .

وفعلا جهَّز هولاكو جيشا قوامُهُ مئات الآلاف من المقاتلين الأشداء ، وتوجه بهم إلى دار الخلافة بغداد . فحاصرها حصارا شديدا ، وراح التتار يرشقون قصر الخلافة بالنبال ، حتى قتلوا بعض جواري الخليفة أمام عينيه في إحدى قاعات قصره .

ولما أحاط التتار ببغداد ، برزَ إليهم ابن العلقمي بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه ، فاجتمع بـ ( هولاكو خان ) لعنه الله ، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه ، والمثولِ بين يديه ، لتقع المصالحةُ على أن يكون نصفُ خراج العراق لهم ونصفه للخليفة ، فخرج الخليفة في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء ورؤوس الأمراء ورجالات الدولة وأعيانها ، فلما اقتربوا من منزل السلطان "هولاكو خان" حُجِبُوا عن الخليفة إلا سبعةَ عشَرَ رجلاً ، فخَلَصَ الخليفةُ بهؤلاء المذكورين إلى هولاكو ، وأُمِرَ الباقون بالنزول عن مراكبهم ، فنُهِبَتْ المراكب ، وقُتِلَ أصحابُها عن آخرهم .. أما الخليفة فقد اقتِيْدَ بعُنفٍ للمثول بين يدي هولاكو ، فعنَّفَهُ على أمور كان قد أخبره بها ابن العلقمي أثناء مكاتباته السرية لهم . فتلعثمَ الخليفةُ ولم يَحِرْ جوابا ، ثم التمَسَ الصلحَ ، فأجيب إليه ، بعدما فُرِضَ عليه أنْ يَدفعَ للتتار كميات كبيرة من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة ، فانصاع الخليفة للأمر وأحضر الذهب والمال والجواهر . ولكن ابن العلقمي قال لملك التتار : لئن صالحته اليوم ، فما هو إلا عام أو عامان ، ويجهز الخليفة جيوشا لا قبل لك بها ، ويسترد كل ما خسر .. وزيَّنَ إليه قتله ، والخلاصَ منه إلى الأبد . فوُضِعَ الخليفةُ داخلَ كيسٍ من الخيش ، وظلَّ التتار يركلونه بأرجلهم ، ويخنقونه بأيديهم ، حتى فارق الحياة . وابن العلقمي يشهد تعذيبه ، ويتشفى به ويشمت .

ثم استباح التتار بغداد ، ومالوا على مَنْ فيها ، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ، واضطُرَّ كثيرٌ من الناس إلى الدخول في الآبار ، وأقنية الوسخ . وكَمَنُوا كذلك أياما لا يَظْهَرُون . وكان الجماعةُ من الناس يجتمعون إلى الخانات ، ويُغلِقُون عليهم الأبواب ، فتفتحها عساكر التتار إما بالكسر وإما بالنار ، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي المباني ، فيقتلونهم فوق الأسطحة ، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة .

وكان الرجل يُستَدعَى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال ، فيذبح كما تذبح الشاة ، أمام أهله وبناته ونسائه وأبنائه .

وقُتِلَ كل من كان هنالك من الخطباءِ والائمةِ ، وحملةِ القرآن ، وتعطلتِ المساجدُ والجماعاتُ والجُمُعَاتُ مدةَ شهور . وما زال السيفُ يعمل في أهل بغداد أربعين يوما متوالية ، حتى بلغ عددُ القتلى مليوني إنسان ، كانت جثثهم مُكدَّسةً كالتلال ، وأصبحتْ بغدادُ مدينةَ أشباح ...

فلما انقضت الأربعون يوماً ، نُودِيَ في بغدادَ بالأمان ، وخرجَ من تحتِ الأرض مَنْ كان بالمطامير والأقنية والمقابر ، كأنهم الموتى إذا نُبِشُوا من قبورهم ، وقد أنكر بعضُهم بعضا ، فلا يَعرِفُ الوالدُ ولدَهُ ولا الاخُ أخاه .

أما ابن العلقمي ، فقد عاقبه الله في الدنيا ، فكوفئ على خيانته بالإذلال والإهانة والاحتقار ... ذكر النويري أنَّ هولاكو استدعاه ، فوبَّخَهُ وبَصَقَ عليه ، وعيَّنَهُ تابعاً لرجل يدعى ابنَ عمران ، كان من خدم المستعصم ، أيام كان ابن العلقمي وزيراً . وزيادة في إصرار هولاكو على إذلال ابن العلقمي ، نهاه أن يركب فرسا ، وقال له : حسبُك أن تركب بِرذَوناً دون الفرس وفوق الحمار ...

لم يَعِشْ هذا الخائنُ بعد ذلك سوى شهرين ، فهلك وأراح الله منه . ثم لحق به ابنُهُ في أقلَّ من شهر ، ونسأل الله أن يكون قد عجَّل بهما إلى النار وبئس القرار ... ( فاعتَبِرُوا يا أُولِي الأبصار ) .

Monday, 24 June 2013

وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏

Monday, 24 June 2013 0
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له
أما بعد :
فإن من أعظم الأخطار المهلكة أن يؤتى المرء من مأمنه ومن حيث لا يحتسب , فأذى القريب أبلغ تأثيراً من أذى البعيد ومن الحبيب أشد من البغيض ومن المأمون أضر من المخوف  . وكل أذى يمكن تداركه إلا أذى يوم القيامة ، فإنه الطامة والداهية التى ليس بعدها داهية . وأشد الناس حسرة من له أعمال يرجو ثوابها وبرها وجزائها، فيجدها آثاما وأغلالا كبلته فياحسرة على العباد !!  يوم أن يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون !!!  فيا أخي الحبيب إحذر ذلك وأصلح أعمالك ونواياك، أصلحنا الله وإياك .
وإليك جملة من الأعمال التي نعملها أنا وأنت نرجو ثوابها وخيرها , وربما تكون ذات آفة تفسدها أو تقلبها سيئات وبها يبدو لنا من الله مالم نكن نحتسب ، فأبينها حتى نحذرها ونصلحها. منها :
1-الاستهانة بالذنب: ربما يحتقر الإنسان ذنباً ويستهين به , فيكون هو سبب هلاكه كما قال تعالى :
( وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )  مثل ما يفعله كثير من الناس من مشاهدة الأفلام الخليعة، ومشاهدة الصور العارية ، والمواقع الإباحية , والخوض في أعراض الناس ، ( الغيبة والنميمة )
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم" البخاري ومسلم
قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-:" إنكم تعملون أعمالا هي في أعينكم أدق من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات" البخاري
2- من زين له سوء عمله فرآه حسنا .
فقد يزين لكثير من الناس أعمال على أنها قرب إلى الله وهى من شر الأعمال مثل : الذهاب إلى أصحاب القبور للتقرب عندهم لله ، أو الجلوس في مجالس ذكر لعمل ختمة فيذكرون الله بذكر معين لم يشرعه الله عز وجل ، أو إحياء أيام غير مشروعة كالاحتفال بالمولد النبوي ،أو يوم الهجرة ،أوشم النسيم , ....... وغيرها كثير .  قال تعالى :( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون)
قال ابن كثير: يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالا سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء )أي بقدره كان ذلك ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) أي لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي لما له في ذلك من الحجة البالغة والعلم التام ولهذا قال تعالى ( إن الله عليم بما يصنعون) . قال تعالى : (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) . قال الفضيل بن عياض في هذه الآية (( وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون )): عملوا أعمالا وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات.
3-المراءاة بالعمل :
قال سفيان : ويل لأهل الرياء من هذه الآية (( وبدا لهم من الله لم يكونوا يحتسبون ......... فياخسارة من عمل طاعات شريفة جليلة ولم يخلص فيها لله عز وجل ......
إن شفيا الأصبحي حدث : أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال من هذا ؟ فقالوا أبو هريرة فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته فقال أبو هريرة:
 أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلا ثم أفاق فقال لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق فمسح وجهه فقال لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق ومسح وجهه فقال أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خارا على وجهه فأسندته علي طويلا ثم أفاق فقال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت ؟ قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له فبماذا قتلت ؟ فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله تعالى له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذاك ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة وقال الوليد أبو عثمان فأخبرني عقبة بن مسلم أن شفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافا لمعاوية فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هالك وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال صدق الله ورسوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون { .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .....
الخطبة الثانية :
4-مظالم العباد :
فمن الناس من يعمل أعمالا صالحة كثيرة ولكنه لا يتجنب ظلم العباد ، فيؤتى به يوم القيامة فيقتص منه فتذهب المظالم بجميع الحسنات ، بل ويطرح عليه من سيئات القوم فيطرح في النار كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- : "أتدرون ما المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ، وقال أيضاً: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" مسلم  ، وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-:"
من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه" .رواه البخاري
5-المطالبة بشكر النعم:
مما يدخل في ذلك أيضاً ولا يحتسب الإنسان له , أن يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم فتقوم بعض النعم فتستوعب جميع أعماله فيطلب بشكرها فيعذب .
عن عائشة : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من نوقش الحساب عذب ) . قالت : قلت أليس يقول الله تعالى { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } . قال: ذلك العرض .قال يحيى بن معاذ : (( إذا بسط فضله لم يبق لأحد سيئة , وإذا جاء عدله لم يبق لأحد حسنة )) نسأل الله من فضله
6-السيئات الماحية ::
وقد يعمل الإنسان أعمالا صالحة كثيرة ومع هذا الصلاح يفعل محرماً مستترا به عن أعين الناس غير مبال بنظر الله إليه . فيمحو ذلك حسناته وتحبط أعماله ولا يبدو له ذلك إلا يوم القيامة
قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- :(لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا . فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا ) . قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لانعلم . قال ( أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم . ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني
فاحذر ياأخي الحبيب أن تكون من هذه الأصناف وأنت لاتشعر. هذا ونسأل الله العفو و العافية في الدين والدينا. وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين .

Wednesday, 12 June 2013

القضاء والقدر واعتقاد الناس

Wednesday, 12 June 2013 0



أشهر المذاهب في باب القضاء والقدر ثلاثة:
المذهب الأول: مذهب الجهمية الجبريّة.
وخلاصة قولهم أن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرةَ لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده هو خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازاً[1].
يقول البغدادي عن الجهم: "وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، كما يقال: زالت الشمس ودارت الرحى، من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به"[2].
فالإنسان عند الجهم يختلف عن الجمادات، لأن الله خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، كما خلق له إرادة للفعل، واختياراً منفرداً له، لكن هذه الإرادة كاللون والطول ونحوهما مما لا إرادة للإنسان فيه ولا قدرة[3].
المذهب الثاني: مذهب المعتزلة القدرية.
وخلاصة قولهم أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها.
فهم ينكرون الدرجة الثانية من درجات القدر[4]، والتي تشمل مرتبتي الإرادة والخلق، فينفونها عن الله تعالى، ويثبتونها للإنسان[5].
يقول عبد الجبار الهمذاني: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله جل وعزّ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال: إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه"[6].
ويقول القاسم بن إبراهيم الرسي راداً على من قال: إن الله هو الخالق لأفعال العباد: "ولو كان هو الفاعل لأعمالهم الخالق لها لم يخاطبهم ولم يعظهم، ولم يلمهم على ما كان منهم من تقصير، ولم يمدحهم على ما كان منهم من جميل وحسن"[7].
المذهب الثالث: مذهب السلف.
يلخّصه شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد.
وأنه سبحان ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو القادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادرٌ عليه.
وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم؛ قدّر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.
فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون"[8].
قال ابن أبي العزّ الحنفي: "ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبّة والرضا، فسوّى بينهما الجبريّة والقدريّة، ثم اختلفوا، فقالت الجبريّة: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله، ولا مرضيّة له، فليست مقدّرة ولا مقضّية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دلّ على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنّة والفطرة الصحيحة"[9].
يقول ابن أبي العزّ الحنفي في معرض ردّه على هؤلاء وهؤلاء: "وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اخلفوا فيه من الحقّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فكلّ دليل صحيح يقيمه الجبريّ فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يدلّ على أن العبد ليس بفاعلٍ في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختياريّة بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدلّ على أن العبد فاعل لفعله حقيقةً، وأنه مريدٌ له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدلّ على أنه غير مقدورٍ لله تعالى، وأنه واقعٌ بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفةٍ منهما من الحق إلى حقِّ الأخرى فإنما يدلُّ ذلك على ما دلَّ عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقةً، وأنه يستوجبون عليها المدح والذمّ.
وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلّة الحق لا تتعارض، والحقّ يصدّق بعضه بعضاً. ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدّلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويُستفاد من دليل كل فريقٍ بطلان قول الآخرين"[11].
1- وقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال: يا هؤلاء، إن ناقتي سُرقت فادعوا الله أن يردَّها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم تُرد أن تُسرق ناقته فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولم؟ قال: أخاف كما أراد أن لا تُسرق فسُرقت، أن يريد ردّها فلا تُرد[12].
2- وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال، ثم عذّبني، أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء[13].
3- ودخل القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ على الصاحب ابن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني ـ أحد أئمة السنة ـ، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ فوراً: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعصى؟! قال الأستاذ: أيُعصى ربنا قهراً؟! فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟! فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبُهت القاضي عبد الجبار[14].
4- وقال غيلان لميمون مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه: أشاء ربنا أن يُعصى؟! فقال له ميمون: أفعُصي كارهاً؟![15].
5- وقد وضع الإمام الشافعي مسلكاً قوياً في مناظرة القدريّة، فقال: "ناظروا القدرية بالعلم[16]، فإن أقرّوا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا"[17].
وكان السلف رضوان الله عليهم يناظرون القدرية بهذا المسلك كثيراً.
6- عن عمرو بن مهاجر قال: أقبل غيلان ـ وهو مولى لآل عثمان ـ وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز، فبلغه أنهما ينطقان في القدر، فدعاهما، فقال: أعِلمُ الله نافذٌ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ يا أمير المؤمنين، قال: ففيم الكلام؟! فخرجنا، فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أشرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟! فقال عمرو: فأومأتُ إليهما برأسي: قولا: نعم. فقالا: نعم. فأمر بإخراجهما[18].
7- وعن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان، ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يُكذب عليّ يا أمير المؤمنين ويُقال علي ما لا أقول، قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم، قال: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل: ما شئت. يا غيلان: إنك إن أقررت بالعلم خُصِمت، وإن جحدته كفرتَ، وإنك أن تقرّ به فتخصم خيرٌ لك من أن تجحد فتكفر[19].
8- بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً قد ظهر يقول بالقدر، وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره، فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشرّ؟ قال: بذلك أقول، فأحضِر من شئت يحاجني فيه، فإن غلبته بالحجة والبيان علمتُ أني على الحق، وإن غلبني بالحجة فاضرب عنقي. قال: فبعث هشام إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته، فقال له الأوزاعي: إن شئتَ سألتك عن واحدة، وإن شئتَ عن ثلاث، وإن شئتَ عن أربع؟ فقال: سل عما بدا لك، قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة. ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ قال: هذه أشدّ من الأولى، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه اثنتان. ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ قال: هذه أشدّ من الأولى والثانية، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه. فأمر به هشام فضربت عنقه. ثم قال للأوزاعي: يا أبا عمرو، فسّر لنا هذه المسائل، قال: نعم يا أمير المؤمنين. سألته: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى؟ نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه بأكلها. وسألته: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ أمر إبليس بالسجود لآدم، ثم حال بينه وبين السجود. وسألته: هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ حرّم الميتة والدم، ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه. قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ قال: كنت أقول: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً، أو قال: دون الله، فقد انفرد بالربوبية، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها، قال هشام: حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء[20].
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل شيء بقدر حتى وضعك يدَك على خدّك)[21].
وقال يحيى بن سعيد: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: "إن أفعال العباد مخلوقة"، قال أبو عبد الله: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة[22].
وقال الإمام أبو حنيفة: "وكان الله تعالى عالماً في الأزل بالأشياء قبل كونها، وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلاّ بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتابته في اللوح المحفوظ"[23].
وقال الإمام مالك لرجل: سألتني أمس عن القدر؟ قال: نعم، قال: "إن الله تعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْى لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، فلا بدّ أن يكون ما قال الله تعالى"[24].
وقال الإمام الشافعي: "إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين، فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خلقٌ من خلق الله تعالى... وإن القدر خيره وشره من الله عز وجل"[25].
وقال الإمام أحمد: "والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومرّه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيّئه، وأوله وآخره من الله قضاءً وقدراً، قدّره عليهم لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل، ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل منه عزّ ربنا وجلّ"[26].
وقال الإمام أحمد أيضا: "أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وأئمة السلف وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله، والنهي عما نهى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين"[27].
وقال أبو بكر الحميدي: "السنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه، وأن يعلم أن ما أصابهُ لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله قضاءٌ من الله عز وجل"[28].
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشرّ والنفع والضرّ والحلو والمرّ بقضاء الله تعالى وقدره، ولا مردّ لهما ولا محيص ولا محيد عنهما، ولا يصيب المرء إلاّ ما كتب له ربّه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرّوه بما لم يقضه الله عليه لم يقدروا"[29].
وقال البغوي: "الإيمان بالقدر فرضٌ لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال عز وجل: {قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء} [الرعد:16]، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فالإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب..."[30].
وقال ابن قدامة المقدسي: "من صفات الله تعالى أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلاّ بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلاّ عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خطّ في اللوح المحفوظ"[31].

[1] انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 302) وما بعدها.
[2] الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 211). وانظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/87).
[3] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/338)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 304).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (3/148-150).
[5] انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
[6] المغني في أبواب التوحيد والعدل، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
[7] كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن الله الواحد الحميد للرسي (1/118)، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 307).
[8] مجموع الفتاوى (8/449)، وانظر: (8/452،459) منه.
[9] شرح العقيدة الطحاوية (ص 324) ط الرسالة، وانظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/165).
[10] انظر مناقشة الأدلة تفصيلاً في شفاء العليل لابن القيم (2/127-255)، والقضاء والقدر للمحمود (ص346-367).
[11] شرح العقيدة الطحاوية (ص640-641) ط الرسالة. وانظر: شفاء العليل (1/150).
[12] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 250-251).
[13] المصدر السابق (ص 251).
[14] انظر التعليق على المصدر السابق (ص 251) وفتح الباري.
[15] انظر: تاريخ الطبري (8/125).
[16] أي: بصفة العلم التي اتصف الله تعالى بها.
[17] شرح الطحاوية (ص 354) ط الرسالة.
[18] الشريعة للآجري (ص 232).
[19] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/789).
[20] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/795).
[21] خلق أفعال العباد للبخاري (ص 34).
[22] المصدر السابق.
[23] الفقه الأكبر المنسوب إلى أبي حنيفة، وشرحه لملاّ علي قاري (ص 63-64).
[24] حلية الأولياء لأبي نعيم (6/326).
[25] مناقب الشافعي للبيهقي (1/415).
[26] طبقات الحنابلة (1/25).
[27] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 228).
[28] مسند الحميدي (2/546).
[29] عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 78-79).
[30] شرح السنة (1/142-144).
[31] لمعة الاعتقاد (ص 19-20).

 
والقلم وما يسطرون. Design by Pocket